إذا كان ثمة إسلام معياري، أي صيغة غالبة عبر المكان والزمان، فإنها بشهادة علماء الدين والمتشددين من مقلديهم، ليست إسلامهم هم
ليست المجتمعات “العربية” على نمط واحد في علاقتها بالموروث والمعاصر، لا خارجيا إزاء بعضها البعض، ولا داخليا في شرائحها الأفقية وتفريعاتها العمودية، وإذا كانت ثمة فائدة في المتابعة الإجمالية، فشرطها ألا تقع في فخّ التسطيح الذي يلزم الكلّ بحال الجزء الذي ناله القدر الأوفى من التفصيل والتمحيص.
والتنبيه ابتداءً هو إلى أن الاختزال الأول في القراءات التعميمية متحقق عند وسم هذه المجتمعات بـ “العربية”. هي كذلك دون تجنٍّ من حيث أن اللسان الغالب هو العربي وإن بلهجاته المختلفة، واللغة الفصيحة الأولى هي العربية يصيغتها المعيارية المعاصرة، وفي العديد من الأحيان، لا في جميعها، في الهوية الذاتية لأعداد تزيد وتنقص من أهلها. أما ما عدا ذلك، ولا سيما حين تُفرض الصفة كهوية قطعية، فالمسألة هي استدعاء لقناعة عقائدية وليست تقريرا وقائعيا.
أوجه التلاقي والتواصل والمحبة والأخاء بين بيروت والجزائر (كما بين غيرهما) عديدة ومتينة وثابتة. ولكنها لا تقتصر على الوجه العربي، بأبعاده اللغوية والأدبية والحضارية والتاريخية (المتحققة والمتخيلة)، بل تتعداه إلى أوجه إنسانية وعالمثالثية ومتوسطية، بالإضافة إلى المشترك الخاص حيث المنتدِب بالنسبة للأول كان المستعمِر بالنسبة للثاني، بطالحه وصالحه. ولا ينفي هذا التلاقي بين بيروت والجزائر مثلا الترابط المتحقق بين بيروت ويريڤان، أو بين الجزائر وباماكو، وصدق الأخاء والتعاطف والشعور بوحدة الانتماء هنا كذلك. فدوائر الهوية ليست متباطنة، بل متداخلة. لا هي “عروبة” حصرية، ولا هي مسقطة لغيرها. والأهم هو أن التجربة الذاتية، اللبنانية كما الجزائرية وغيرهما، أسست في كل حالة لشخصية معنوية وطنية، من التعسف تجاوزها لتحقيق المبتغى العقائدي في التأحيد الفكري.
ثمة التباس بالاصطلاح، ولا بأس. الإلحاد، تاريخيا، كان إنكار النبوات، لا الإله. أما اليوم، فالمقصود به اللاإلهية، فيما انتقل معناه الأول إلى “الربوبية”
على أن الاختزال الثاني، والأكثر إنهاكا، عند النظر بموقع الدين في المجتمعات “العربية”، هو في إقصار الحديث على الإسلام دون سائر الديانات، السابقة واللاحقة له، مع افتراض تجانسه، وإهمال ما عدا “أهل السنة والجماعة” من الإسلام إلا لرفع الحرج، والانشغال بهموم علماء الدين والمتحمسين من مقلديهم في أوساط هؤلاء، وافتراض أن الحالة الدينية مقيّدة بآرائهم وفتاواهم، رغم أن الغالبية العظمى من المسلمين ـ والمسلم هو من اعتبر نفسه مسلما ـ لا هم ملتزمون بدقائق الفتاوى هذه ولا هم منشغلون، كما يرى سيئو الظن، باجتراح “البدع” واقتراف “المعاصي”.
بل إذا كان ثمة إسلام معياري، أي صيغة غالبة عبر المكان والزمان، فإنها بشهادة علماء الدين والمتشددين من مقلديهم، ليست إسلامهم هم، وإن أعلنوه حالة مطلقة لا تقبل التعديل والتبديل، بل هي هذه التجليات المطمئنة المختلفة دون نفور، للتجربة الدينية المستقاة من الأصل الإسلامي وفق القراءات المحلية والخاصة، توافقت مع النص بشكله أو بمضمونه، بصحيحه أو مجازه، أو اختلفت معه مع إحسان النية.
وتصنيف “أهل السنة والجماعة” بحدّ ذاته نموذج على هذا التجاذب. هو تصنيف حديث العهد نسبيا، أي أنه لم يكن متداولا في صدر الإسلام، حيث الحديث كان عن “جمهور المسلمين”، بمن فيهم الفرق المختلفة، ما بقي منها وما تبدد. ظهر في زمن العباسيين، وتطور ليشمل فقهيا المذاهب الأربعة، وكلاميا الأشاعرة والماتريدية والأثرية، ومسلكيا معظم الطرق الصوفية. أما اليوم، فالتنازع قائم حول هذا المصطلح بين السلفية، الحنبلية الأثرية، من جهة إذ يجعلونه ميراثا حصريا من أهل الحديث، ويخرجون الأشاعرة من كل من “السنّة” و “الجماعة”، ويكفّرون “القبوريين” من صوفية المقامات والمزارات، فيما المدافعون عن الأشعرية، من أزهريين ووسطيين وغيرهم، يجعلون “الوهابيين”، أي السلفية، خارجه.
وفي حين أن كل من الفريقين يزعم الحصرية في ملكيته لمصطلح “أهل السنة والجماعة”، نافيا عنه مضمون “الجماعة” بمعنى الشامل للكل، فإن معظم المسلمين، خارج هذه القناعات العقائدية، يتماهون مع التسمية على أنها إشارة إلى إحدى فرقتين إسلاميتين، “السنة”، في مقابل “الشيعة”، هما أقرب في اختلافهما إلى أقدار متباينة من الولاء العصبي والمرجعية التاريخية منه إلى القناعة العقدية.
فعلى الكلام عن إشكالية العلاقة بين المجتمع والدين أن يخطو خطوات متأنية لتجنب التسطيحات المتراكمة، من تجاهل الخصوصية المجتمعية، إلى الإلزام بالعروبة والاقتصار على الإسلام واختزاله بالسنة وحصرها بالطروحات العقدية.
ولكن، في مقابل هذه الإدخالات القسرية، لغير العقدي وغير السني وغير العربي مع تجاهل المسارات الخاصة للمجتمعات المختلفة، فإن النظر بالعلاقة بين الدين والمجتمع غالبا ما يتضمن كذلك إخراجا قسريا قد يكون من المجدي إعادة اعتباره.
منصات التواصل الاجتماعي قد أتاحت لأعداد واسعة من الملتزمين دينيا ودعويا الشروع بتقسيم ينطلق من اعتماد هذه الإدخالات القسرية، ليصبح صفهم عابرا للتفاصيل المزعجة (هو صف عربي، مسلم، سني، بضبابية وفق المقتضى)، فيما الصف المقابل ينحصر بالخارجين عن “الأمة”، صراحة أو مواربة.
هؤلاء الخارجون هم “الملحدون” و “الربوبيون” و “اللادينيون” “القرآنيون” و “الليبراليون” و “التنويريون” وغيرهم. هي نعوت يراد بها الإدانة، غير أن أصحابها في العديد من الحالات يعتنقونها ويجاهرون بها للتمايز عن الملتزمين المتزمتين “الظلاميين” و “الرجعيين”.
ثمة التباس بالاصطلاح، ولا بأس. الإلحاد، تاريخيا، كان إنكار النبوات، لا الإله. أما اليوم، فالمقصود به اللاإلهية، فيما انتقل معناه الأول إلى “الربوبية”.
لا شك أنه للتوجهات الفكرية اللاإلهية واللادينية واللافقهية الغربية أصداء ومتابعات في المحيط العربي والإطار الإسلامي. على أنه إذا صحّ أن العديد من هذه التوجهات الغربية تبقى مسيحية أو ما بعد مسيحية في أسسها وسجالاتها، فإن تلقيها في السياق العربي والإسلامي على الغالب لا يعمد إلى اعتبارها انطلاقا من خلفيتها هذه، بل يقبلها بعد تجريدها، الضمني أو الصريح، من رصيدها المسيحي، ليفترضها ويفرضها كمادة يقينية مطلقة.
ليس أن تحليل الدين وفكرة الإله وما يستتبعهما مقيّد بالاعتبارات الموروثة، وهي مسيحية ويهودية غربيا. ولكن التجاوز المتسرّع لهذه الاعتبارات يجعل من تحليل الدين، وهو الفعل الجدلي المتحول، ثابتا جديدا، غالبا ما يطرحه “الملحدون العرب” بما يحاكي قدسية النص وجلاء التنزيل. الملحد في هذا السياق هو “المؤمن” بالإلحاد، الكافر بأوثان جاهلية عصره (أي الإسلام)، الممسك بكتاب فيه اليقين، هو العلم، والواثق بأنه على الحق فيما العامة (من المسلمين وسائر المؤمنين بالأديان) على ضلال مبين. أي أن الملحد العربي هذا، مع بعض التعديلات الطفيفة، هو مسلم ملتزم متزمت.
ربما أن التديّن المطمئن هو القادر على مواجهة النقد والنقض بالعقل والإيمان، لا بتصيّد الهفوات أو الانحدار إلى الشتائم
ما ينطبق على الملحدين العرب يصحّ كذلك على سائر “الفرق” المعاصرة. “ليبراليون” يشتكون من جهل العامة وسوء خياراتها. “تنويريون” على ثقة بأن شعلة النور أمانة يمنّون بها على مجتمعاتهم، “قرآنيون” أدركهم النقد العالي الغربي للحديث وفاتهم انطباقه على القرآن. “لادينيون” استبدل البعض منهم القصص الديني المفتقد للدليل بروايات أخرى يقبلها العقل، وإن غاب سندها ووهنت أدلتها.
على الغالب، ومع إتاحة المجال بالطبع لتفرد بعض المفكرين وخروجهم عن هذا الإجمال، فإن المنهجية والمنطلقات الفكرية، بل اعتبار أصول المعرفة وإن على خلاف، هي أوجه مشتركة بين كافة هذه التوجهات العقائدية، من المتدينة الملتزمة إلى الملحدة. وليس طعنا بالإسلام نسبة هذه الفرق إليه، ولا انتقاص لها. بل هي ملاحظة تقتضيها المعطيات.
ربما أن التديّن المطمئن هو القادر على مواجهة النقد والنقض بالعقل والإيمان، لا بتصيّد الهفوات أو الانحدار إلى الشتائم، وربما أن الاعتراض على الدين، مادة ومستتبعات، هو القادر على مساءلة الأصول التي يبنى عليها هذا الاعتراض، كما مساءلة الدين نفسه.
هذا وذاك يبقيان اهتمام القلة، ولا ضير إن شاءت أن تعتبر نفسها نخبة. أما غالب الناس، فهذا السجال عند رتبة متأخرة من اهتماماتهم. شرط ألا يترجم، كما حصل ويحصل، أذى ماديا أو معنويا طالهم، ومجتمعاتهم وأوطانهم.
عزيزي الاخ طلال ، الرجاء مسح التعليق الاول لوجود اخطاء فيه وشكرا ؟
من …ألأخر
يقول محمد ستنقسم أمتي الى 72 فرقة وواحدة منها فقط هى الناجية ، وبعد البحث والتمحيص لم فيها واحدة ناجية غير التي تركت الاسلام ، وأعتقد هى التي عبرت لنور السيد المسيح ، سلام ؟
الفطرة السليمة تقود الانسان الى ان الاله واحد قوي عزيز متكبر جبار عظيم في كل الصفات و لا يتشبه بمخلوقاته من صفات الضعف كان يكون له ولد و ليس في حاجة الى هذه الفلسفة و النهج ليضحي بجزء منه ليعفو عن اخطاء الحمقى من البشر. المسيح ارقى من ان يتطاول على ذات الالهية و يدعى انه اله على الارض و ابن لاله في السماء