مازن البلداوي
8/1/2022
قررت منذ زمن ليس بالقصير على ان اصبر لفترة أطول تجاه تصرفات البعض لكي لا أكون متعجلا في استنتاجي وقراري تجاه تصرفات البعض من الناس التي قد يتصور اصحابها بأنها لن تصنّف تحت مسمى “كلام حق يراد به باطل”. والحقيقة اني لم اتعجل يوما بإصدار حكمٍ مسبقٍ على تصرف ما و اضطررت بعد ذلك لتغييره نتيجة لسرعة استنتاجي خاصة في العلاقات الجدية ذات الطابع التأثيري المتبادل بين شخصين او داخل مجموعة ما، و هذا ما دفعني لاكون اكثر صبرا كي اوثّق استنتاجي الابتدائي عن فرد معين بتأكيد ثانٍ او ثالثٍ احيانا مبتعداً عن احتمالية تدخل الأنطباع المبدئي في صياغة القرار المتخذ تجاه شخص ما.
انا احد الأشخاص الذين ترهقهم “مزوّقات الامور” من وصف او مجاملة او كلمة ما او حتى تعبير معين لأني اعتبرها زيفاً يرهق القائل و يُزهِق المتلقي لكونه تصرف غير حقيقي نابع من رؤية واضحة صادقة تختزن بين جنباتها نية التصويب اذا كان نقداً بنّاءاً او اعجاباً ينمّ عن فهمٍ و استيعابٍ لمحتوى القول الذي قام به المتلقي المقصود اعلاه. و لكي القي الضوء هنا و اجعل الأمر اكثر وضوحا، فأني سأستعير مصطلح “وعّاظ السلاطين” كأنموذج يمكن اللجوء اليه لتوضيح المقصد وراء هذه السطور.
و مما لا ريب فيه فأن الكثير من أوجه النفاق التي أرهقت مجتمعاتنا الزاخرة به قد تحول إلى الفضاء الازرق و اصبح المرء يشاهده هنا و هناك. فلا يكاد موقع ما يرفع راية من رايات المعرفة ممثلة بشخصية معروفة علميا او ادبيا او معرفيا الا و تجده يزخر طافحاً بكيل التزويق و النفاق من خلال تبادل ايقونات القلب و الزهور و ماشاكلها بدرجة تطغي على المنشور ذاته و تستبعد اي محاولة للتحاور حول موضوعه لبيان المفاهيم التي يحتويها و توسعة حدود الاستفادة منه لغرض الانتفاع به. ولأننا ندرك ان تسهيل عملية التواصل بين الناس اليوم قد يسّرت كثيرا من عملية تبادل الآراء او إبدائها بين الأفراد عبر أصقاع الأرض و بمختلف اللغات، الأمر الذي كان يتجشم فيها الناس الصعاب من خلال ارسال الرسائل البريدية ناهيك عن الفترة الزمنية التي تستغرقها عملية تبادل الآراء تلك بين شخصين او مجموعة أشخاص حول أمر معين. تخيل مثلا….. ان الأنترنت لو كان متاحاً في زمن غاليلو، او كوبرنيكوس، او ماركوني او أينشتاين فكيف كانت لتكون نتائج ابحاثهم و تطويرهم للنظريات و البحوث التي كانوا يعملون عليها
و لأن السيد “مارك زوكربرغ” و فضائه الازرق قد تمدد الى أطراف السماء من خلال السيرفرات العابرة للمحيطات لتفتح الأبواب امام الجميع لطرح أفكارهم و اقوالهم و بنات أفكارهم و يسّر أمر التواصل بين الناس عبر أرجاء المعمورة إلا انه من باب آخر يسّر الأمر امام الكثير من المعنيين بعنوان هذا المقال لأن يستغلوا هذا التطور التكنولوجي لصالح أجنداتهم التي لاتخلو من الحسد و النفاق و التصيد و محاولة الأستئثار بانتباه الأخرين داخل مجموعة ما، خاصة تلك المجاميع التي لا تطرح مواضيع من شأنها أثارة فضول المشتركين في المجموعة لمعرفة و متابعة المنشور على صفحتها لأن المنشور لا يحمل أكثر من آهات و شكوى قد تتوسع لتكون صورة متخيلة تحاكي نار شوق محب تجاه حبيبته او بالعكس.
و على الرغم من ان اكثر ما يتم نشره في العادة على هذه الصفحات يكون منقولا من صفحات أخرى نتيجة لعدم مقدرة الناشر لصياغة سطور معينة ينتفع بها القارىء خلال حياته كأن تكون السطور معنية بكيفيات التعايش مع الآخرين عبر التسامي فوق الخلافات العقائدية او الطائفية او الدينية او ان تكون سطوراً يستلهم من خلالها القارىء آليات جديدة للنظر الى مختلف الأمور التي يواجهها في حياته ليكون أكثر واقعية في التعامل معها ولكي يبتعد عن احتمالات الأحباط او الأكتئاب اذا ما بقي يتعامل مع ما يؤرقه من خلال قوالب جاهزة ذات مفاهيم رثة قديمة تفوح منها رائحة العفن احيانا على الرغم من ان واضعها قد قام بوضعها داخل صناديق جديدة مزوّقة لتعجب الناظرين، لأنه يحاول ان يستلب لبّهم من خلال أعينهم و هذا هو مربط الفرس و مَهبَطِ النَفَسْ.
أصبح الفضاء الأزرق اليوم ملىء بمثل هؤلاء المزيفون و انعكس الكثير من ممارساتهم على ارض الواقع و انتقلوا اليها ليمارسوا ذات الفعل الذي يجيدونه وقد يتميزون به لأنهم يعرضون خدماتهم مجانا في كثير من الأحيان لإطفاء رغبات النفس المختزنة و التي تولدت و تعاظمت نتيجة الفشل في الظهور عبر الطرق الطبيعية داخل المجتمع بسبب ظروف اجتماعية او بيئية ما خلال المراحل العمرية المختلفة. هؤلاء هم الممهدون للأستعلاء والتكابر و الطغيان لبعض المنتفعين من مثل هؤلاء المتملقين حيث يستطيعون الدخول الى أطياف واسعة من الجماهير التي انتقلت تدريجيا من طرق التواصل التقليدية الى طرق التواصل الألكتروني، وهذا هو الأمر الطبيعي الذي يجب على الأنسان الطبيعي ان يسلكه. الا انهم اليوم اصبحوا اكثر عرضة لتأثير الخطاب المزيف من السابق بموجب هذا التوسع الذي ذكرناه للسيد مارك. ما عادت اليوم طرق الأستفهام و الأستفسار القديمة نافعة اليوم في عمليات التقييم و التحليل حيث أصبحت الملابس و الوجوه (المشوهة في كثير من الأحيان) و الأكسسوارات الأخرى هي المعايير التي يوجه من خلالها هؤلاء المزيفين الناس لتقييم أحد الشراذم او صنوه.
في الحقيقة ان الأمر لم يأتِ اعتباطاً لأنه جاء نتيجة انحسار واسع للثقافة الحقيقية المبنية على أسس النفع الأنساني والتي تساهم عمليا في عمليات الأرتقاء بالناس و المجتمعات مقابل ارتفاع منسوب المياه في شبكات الصرف الصحي الثقافي و الأجتماعي منذ زمن ليس بالقصير لأن المكلفين بالحفاظ على صيانة تلكم الشبكات قد تماهلوا بعملهم و حرصهم على ادائه بطريقة صحيحة مما ادى الى تراكم الكثير من الأجسام غير المرغوب فيها فأدت الى انسداد الشبكات و بالتالي فهي تطفح الى السطح بين حين و آخر مثيرة للرائحة الكريهة و متسببة في إزعاج الناس، الذين و كما يبدو قد اعتادوا الأمر الى ان اصبح جزءا من ثقافتهم البيئية الطبيعية فلم يعد احد يتذمر من وجود هذه الأجسام ولا حتى تلكم الرائحة لأنها اصبحت متسيدة على المشهد العام.
وللحديث بقية…..