The Man Who Saved the World
د. ميسون البياتي
قال الرئيس الأمريكي جون كينيدي ذات يوم : نستطيع إستعمال السلاح النووي ضد أي من أهدافنا .. لكننا نحن المنتصرون عندها , ستكون أفواهنا مليئة بالرماد
نتابع موضوع اليوم عن الرجل الذي أنقذ العالم وله فضل ودين برقبة كل مخلوق في هذا العالم , ليس البشر حسب بل له فضل حتى على الحيوان والشجر , إنه المقدم في سلاح الجو السوفييتي ستانسلاف بيتروف
Stanislav Petrov
الذي كان مسؤولاً عن متابعة أحد أقمار الإنذار المبكر ضد التعرض الى أي اعتداء نووي أمريكي على الأراضي السوفييتيه أيام كان الإعلام يلعلع بالحديث عن الصواريخ البالستيه العابره للقارات المحمله بالرؤوس النوويه , وإطلاق مصطلح حرب النجوم من قبل الرئيس الأمريكي رونالد ريغان في 23 مارس 1983 وبينما الأعناق مشرئبه كما يقال وهي تترقب ما ستؤول اليه الأمور وقعت الحادثه التي كانت ستفني العالم لولا حكمة هذا الرجل في 26 سبتمبر 1983
كانت مهمة بيتروف هي مراقبة أي هجوم نووي ترصده أقمار الإنذار ضد الاتحاد السوفييتي ومن ثم تحذير رؤسائه على الفور , ليشرعوا بعد ذلك في هجوم نووي مضاد وفقاً لعقيدة التدمير المتبادل بين المعسكرين السوفييتي والأمريكي
وبينما كان أفراد وحدته يضحكون ويتسامرون أثناء واجبهم المسائي , إنطلق جرس التنبيه الأول من جهاز المراقبه , تلبدت الأجواء فجأة وبدأ الكل يركض للتحقق من جدية التنبيه , وفي هذه الفوره ينطلق جرس التنبيه 4 مرات متتاليه ليصبح عدد التنبيهات 5 , وكان على بيتروف بإعتباره آمر الوحده أن يقرر ما اذا كانت التنبيهات جديه لإبلاغ القياده التي ستقوم بالرد مباشرة , أو أن عليه التريث والإنتظار ريثما يتم التحقق التام من جدية التنبيه
رحمة من رب العباد بخلائقه أن ألقى على بيتروف هدوء وصمت نبي حتى مرت دقائق الإنذار وحين لم تقع أية ضربه نوويه على الأرض السوفييتيه , تبين أن الإنذار كان كاذباً سببه خلل في قمر المراقبه الصناعي أو الكومبيوتر المرتبط به
حين علمت القياده بالأمر شكرته , ثم سرعان ما وضعت عليه اللوم وتجاهلته ما جعله يستقيل من الجيش شبه مطرود , بلا شكر ولا مكافأة خدمه
انتهى الإتحاد السوفييتي عام 1990 وجاء عام 1997 , وبدأت وثائق كي جي بي والمؤسسات الحكوميه الأخرى تخرج الى العلن فتم التعرف على ما قام به ستانسلاف بيتروف وبدأ البحث عنه , وهنا سيبدأ الفيلم الذي سيعرض موضوعه
الرجل الذي أنقذ العالم هو فيلم دنماركي طويل يمزج ما بين الوثائقيه والدراما تم انتاجه عام 2013 للمخرج بيتر أنتوني تدور أحداثه حول ستانسلاف بيتروف ، المقدم السابق في قوات الدفاع الجوي السوفييتي ودوره في حادثة الإنذار الكاذب النووي عام 1983 الذي جنّب التسبب في محرقة نوويه تبيد الحياة بمختلف أشكالها على كوكب الأرض
عرض الفيلم لأول مرة 2014 في مهرجان وودستوك السينمائي في وودستوك ، نيويورك وفاز بلقب : مشرّف , ثم حاز على جائزة الجمهور لأفضل فيلم روائي مع لقب مشرّف , وجائزة جيمس ليونز لأفضل سيناريو روائي يحويه الفيلم . في العام 2018 عُرض الفيلم لأول مرة في روسيا في مركز الأفلام الوثائقية في موسكو
يعرض الفيلم رحلة بيتروف عام 2006 إلى الولايات المتحده مع المترجمه غالينا وكان هو قبلها قد طلب زيارة الأمم المتحده ومقابلة الممثل كيفن كوشنر والممثل روبرت دي نيرو . عند وصوله الأمم المتحده طُلب منه إلقاء كلمه لكنه وجدها صعبة للغايه , ففي الأنظمة الشموليه يربون الإنسان على أنه زر في آله , يعرف كيف يعمل بالكبس على رأسه ولا يعرف كيف يتصرف كإنسان , لكن بيتروف يتدبر أمره في النهايه ويقول عدة كلمات باللغة الروسيه فمع الستار الحديدي الذي بدأ منذ عهد ستالين كان من المحرم على المواطن تعلم لغة أجنبيه . بعدها التقى بكيفن كوشنر ثم زار صومعة صواريخ مينيوتمان التي تم إيقاف تشغيلها مع نهاية الحرب البارده
لعب الممثل سيرجي شنيريوف دور بيتروف ايام كان شاباً عام 1983 , أما دور بيتروف في الفيلم فقام به بيتروف بنفسه . استغرق تصوير الفيلم 10 سنوات من عام 2003 حتى عام 2013 بسبب إحجام بيتروف عن الإنفتاح والمجاراة , كانت له عقده النفسيه التي سنتحدث عنها لاحقاً , وكان الخوف يلازمه كمواطن سوفييتي غير مصرح له بالحديث والا فمعسكر الإعتقال بإنتظاره , نهاية الاتحاد السوفييتي ليست مهمه , المهم هو ما خلفته في نفوس مواطنيها من بؤس
في المقابله التي أعقبت عرض الفيلم قال بيتروف إنه لا يعرف ما إذا كان ينبغي عليه أن يعتبر نفسه بطلاً لما فعله ذلك اليوم فمن وجهة نظره كل ما حدث لم يكن مهماً بالنسبة له – لقد كانت وظيفته وهو لم يفعل أكثر من الواجب وكان بكل بساطه يقوم بعمله مجرداً وأنه كان الشخص المناسب في الوقت المناسب هذا كل شيء , حتى زوجته الراحله منذ سنوات لم تكن تعرف شيئًا عن إنجازه لأنه لم يخبرها
توفي بيتروف عام 2017 عن عمر 78 سنه , خلال حياته حصل على العديد من جوائز السلام وجوائز التقدير من مؤسسات رصينه أوربيه وأمريكيه وكانت تتضمن مكافآت ماليه جيده . عام 2018 أي بعد وفاته تم تكريمه في نيويورك بجائزة ( مستقبل الحياة ) وقيمتها الماليه 50 ألف دولار , وكان التكريم في حفل أقيم في متحف الرياضيات في نيويورك ، قال فيه الأمين العام السابق للأمم المتحدة بان كي مون : من الصعب تخيل أي شيء أكثر تدميراً للبشريه من الحرب النوويه الشامله بين روسيا والولايات المتحده , ومع ذلك لولا القرارات الحكيمة لستانسلاف بيتروف عام 1983 لوقع الفناء , لهذا ، فهو يستحق امتنان الإنسانية العميق . دعونا نعقد العزم للعمل معاً لتحقيق عالم خالٍ من الخوف من الأسلحة النوويه ونحن
نتذكر القرار الشجاع الذي اتخذه ستانسلاف بيتروف
بعد وفاة بيتروف تسلمت ابنته إيلينا الجائزه وغاب نجل بيتروف ديمتري عن رحلته إلى نيويورك لأن السفارة الأمريكية أخّرت تأشيرته
في نفس اليوم الذي تم فيه تكريم بيتروف في نيويورك أصدرت البعثه الدائمه للاتحاد الروسي لدى الأمم المتحدة بياناً أكدت فيه أن طرفاً واحداً لا يمكن أن يبدأ أو يمنع حرباً نوويه تحت أي ظرف من الظروف , لا يمكن اتخاذ قرار باستخدام الأسلحة النوويه أو حتى التفكير بإستخدامها , لا في الاتحاد السوفييتي ولا في الولايات المتحدة على أساس البيانات من مصدر أو نظام واحد , فمن الضروري الحصول على تأكيد من عدة أنظمة : الرادارات الأرضيه ، أقمار الإنذار المبكر ، تقارير الاستخبارات
نأتي الآن الى مناقشة عقد أو مشاكل بيتروف النفسيه التي جسدها الجانب الدرامي من الفيلم . إحساس الوحده الدائمه المدمر لازم بيتروف حتى مماته . أول أسباب هذا الإحساس هو ( عقدة الأم ) التي يحملها في نفسه منذ طفولته , أمه كانت ناقمه لوّامه متشفيه , انتهت علاقته بها منذ وقت مبكر جداً من حياته وزادتها هي حده حين بدأت تهمله وتهتم بأخوته أكثر منه . في بداية الفيلم حين يسأله المذيع الذي يحاوره عن والدته فكأنه ينكأ أقسى جروحه وأكثرها إيلاماً , لدرجه دفعته الى الصراخ وطرد طاقم العمل والمصورين خارج بيته , وبقي على موقفه الحاد كلما سأله أحد عنها أو طلب منه زيارتها . المره الوحيده التي زارته فيها أمه كانت بعد وفاة زوجته , جاءت تلوم وتنتقد وتتشفى في وقت لايحتمل حتى كلمه واحده فأجهزت على أية بقيه لعلاقه إن كانت هناك بقيه . حين زارها أخيراً بعد وفاة أخيه التي سمع بها من الصحف حمل اليها ورداً , وكان واضحاُ من مشيتهما معاُ أنه لم يعد بحاجه الى أم وهي نفسها لم تعد أماً بل مجرد سيده مسنه , أما هي فبعدما عرفت أنه أنقذ الحياة على الكوكب قالت له إنها فخورة به , ثم التفتت الى قبر أخيه باكيه ووضعت عليه الزهور التي جلبها ابنها الحي , إهمال حتى النهايه فكيف لا يشعر بالوحده
العلاقه التي كانت تربطه بزوجته هي العلاقه الوحيده في حياته التي وجد فيها نفسه , كانت مصابه بالسرطان وكان يمرضها ويحنو عليها وحين ماتت تركت فراغاً هائلاً في نفسه ظل يعالجه سنوات طويله بالإدمان على تناول الخمر والتدخين والوحده والإنعزال عن الناس , حين ماتت كان سنده الروحي قد غاب عنه , بقي يحلم بها حتى نهاية حياته
لم يذكر لنا الفيلم ولا سيرته الذاتيه أي تفاصيل عن أولاده أو أعمارهم أو كيف أو أين عاشوا بعد وفاة والدتهم , ولا طبيعة علاقة بيتروف بهم , ففاقد الشيء لا يعطيه في كثير من الأحيان , ربما كان نسخة من والدته في حياة أبنائه , وربما كان العكس تماماً لكننا لا نعرف
المؤثر الأكبر على شخصيته من حيث عدم تقديره الكافي لذاته ولإنجازه هي التربيه والعيش في ظل مجتمع شمولي لا يعير الفرد أدنى أهميه , ومن تظافر الشخصي والعام يبدأ المرء بالنظر الى نفسه بتساهل وضآله وعدم تقدير كافي . أنقذ مختلف أشكال الحياة على الارض ثم يقول : انا لم أفعل شيئاً وكنت أقوم بمجرد واجبي .. فأي استهانة بالذات والإنجاز
حياة الفقر في المجتمع الشمولي , أثاث مكسر وأسمال الثياب وألوان كالحه وأرخص الطعام , من أين يأتي المرء بالفرحه التي ترفع المعنويات ؟
لا تتعلم لغه اجنبيه ولا تمد عينك الى ما يعيش به غيرك في بلد آخر ولا تقرأ ما يكتبون , ألا تحدد التفكير وتترك المرء متخلفاً عن أقرانه في الوجود رغم أنه لا يقل عنهم انسانية وحقوق في كل شيء ؟
بعض البشر يعتقدون الحياة دوام واستقرار فيطمعون ويظلمون ولا يتوانون عن فعل كل شيء في سبيل الفوز بما يريدون , لكن الحقيقة وفي ظل الكوارث الطبيعيه , والحروب , والأوبئه , والكوارث البشريه , فنحن موجودون على الأرض بمحض الصدفه , حقيقه علينا الإيمان بها
طول الفيلم ساعتان الا ربعاً .. وقتاً ممتعاً
د. ميسون البياتي