كان الحاج نصوح -حجي الطوابع – رحمه الله، تاجر الطوابع الرئيسي في دمشق.
عرًّفني عليه شيخ هواة الطوابع في سورية الأستاذ زهير الهنيدي في أوائل الثمانينات.
واسترعى تواضعه انتباهي فكنت أزوره في مكتبه وأستنطقه بسعادة كهاوٍ حول كيف وصل الى ما وصل إليه.
بدأت في ساحة المرجة، قال لي، أبيع السكاكر والعلكة والراحة حاملاً بسطتي الخشبية ودابقاً بالزبائن حتى يشتروا. بدأت العمل أيام الفرنساوي وكنت أحصل بصعوبة على ثمن عشائي.
أشفق عليّ الحلاق ‘أبو الياس’ وبات يجربني في بيع الطوابع البريدية على بسطتي.
ووجدت أن أذكى طريقة للبيع كانت ببيع الطوابع الغالية برأسمالها والطوابع الرخيصة بأرباح جيدة. فكان الناس اذا سألوا عن طابع معروف يكتشفون أني أبيعه رخيصاً فتكاثر الزبائن وأصبحت بسطتي مركز بيع الطوابع في المرجة. تحسنت أموري الى أن استأجرت دكاناً صغيراً ‘ وقال لي الحبيب خذ’.
كنت لا أجيد القراءة والكتابة، فبِتُ أسهر الليالي حتى تعلمت القراءة والكتابة في سنتين -طبعاً مفشكلة-. وقلت في نفسي ‘إذا أردت حضور مزادات الطوابع ومكاتبة التجار فعليك أن تتعلم الفرنسية والانكليزية ولو بقيت مفشكلة’
Functional English and French
. وهكذا كان.
أصبحت أستمتع بتصحيح رسائله الفرنسية والإنكليزية وأزداد إعجاباً بذكائه وسرعة بديهته.
حدثني مرة أن تاجراً يهودياً دمشقياً جلس الى جانبه في أحد المزادات في فرنسا وعلٌمه مبدأ ‘قلب العملة’. قال له: خلّي فلوسك جاهزة بجيبك، عندها إذا عرضت عليك مشتريات بأسعار مناسبة، تشتريها فوراً بينما الآخرون غير قادرين على ذلك. وإذا اشتريت بمائة وعرض عليك مائة وعشرة بعد ساعة فبع فوراً، لا تتأخر واشتر وبع مجدداً فتصبح المائة مائتين أو ثلاث أو أربع في نهاية العام. تحريك وقلب العملة هو الذي يدر عليك بالمال الوفير وليس التخزين بانتظار سعر جيد. ظل الحاج نصوح يبيع ويشتري حتى اغتنى وأصبح يملك عدة منازل وعقارات قبل أن يتوفاه الله.
وفي فترة عصيبة في ستينات القرن الماضي، تراجعت الأعمال وشحّ السوق وأفلست محلات عديدة في دمشق وكان الحجي يحوص بحثاً عن أي زبون حتى يئس. فجأة خطرت له فكرة عندما رأى شحاذاً مشهوراً في حارة مكتبه فنزل اليه ودعاه الى مكتبه لشرب عصير ليمون.
سأل الحجي الشحاذ، ماذا تفعل بالمال الذي تجنيه، فأجابه: لا أجرؤ على تركه في البيت خشية أن يُسرق، فأضعه في كيسين حول خصري وأدور به وأنا أشحذ.
قال له الحجي، ألم تفكر يا فهمان أن تشتري به طوابع جيدة مضمونة من قبلي. تستطيع تركها وأنت مطمئن في بيتك فلن يسرقها أي حرامي إذ أنه لا يعرف قيمتها، وأنت ستشحذ هكذا على هواك والطوابع في البيت. أعجبت الفكرة الشحاذ واشترى من الحجي بالمبلغ المرقوم.
استمر الكساد في السوق وكان الحجي يتمشى يوماً في سوق الحميدية فرأى من بعيد صديقه الشحاذ فقال لنفسه ‘ ويلي، قد يطالبني برد الطوابع، وأنا ملتزم تجاهه’ وانتقل بسرعة الى الرصيف الآخر وأشاح بوجهه حتى لا يلاحظه الشحاذ.
بعد سنة صادفه الشحاذ على حين غرّة دون أن يتنبه. وبعد السلام سأله الحجي عن الطوابع فأجابه ‘ لا تذكرني بها، وضعتها في السقيفة ولم أعد أعرف كيف أشحذ، إذ كنت أفكر فيها باستمرار خشية أن تُسرق وأعود لتفقدها عدة مرات في اليوم. استمر الأمر على هذا المنوال عدة أشهر ولم يكن لدي عذر لإعادتها لك، فحزمت أمري يوماً وعدت الى البيت وأشعلت فيها عود ثقاب فتخلصت منها، وعدت الى شحادتي بلا تردد وأنا راضٍ وسعيد.
قال الحجي لنفسه ‘ اوخ..اوخ، الحمد لله، ما بقى في ترجيع’.
تذكرت هذه القصة وأنا أرى كل يوم مئات الشحاذين في الشوارع بعد أن تفاقمت الأوضاع في بلدنا. هل يملكون حول خصورهم يا ترى ما يفيض عن حاجتهم فيستثمروه في إعادة الإعمار؟
أبشري يا بلدي، إذا هرب الحرامية فسيبنيكٍ الشحاذون.
أرجو أن تنسوا أو تتناسوا الجملة الأخيرة !!