اكتشاف قصر الملك في مدينة گيرسو السومرية

اكتشاف قصر الملك في مدينة گيرسو السومرية

بقلم : عضيد جواد الخميسي

اكتشف فريق من علماء الآثار التابع للمتحف البريطاني أخيراً، وبعد جهود استمرت عدة سنوات ؛ بقايا مفقودة منذ زمن طويل لقصر ومعبد سومريين في مدينة “گيرسو” القديمة في جنوب العراق . ويعود تاريخ تلك الآثار إلى منتصف الألفية الثالثة قبل الميلاد ( حوالي عام 2500 قبل الميلاد) .

مدينة “گيرسو” الأسطورية ، والتي تُعرف الآن باسم “تلو” والتي تبعد حوالي 16 كم شمال شرق مدينة الشطرة في محافظة ذي قار الجنوبية ، وكانت واحدة من أقدم المدن في العالم ، ومركزاً رئيسياً للثقافة والمجتمع السومريين . وتُعدّ من أهم المواقع التاريخية في بلاد الرافدين .

بداية المُهمّة الاستكشافية كانت بتمويل من المتحف البريطاني ، وجزءاً من مشروع مشترك بين المتحف البريطاني وموقع گيتي Getty للتصوير ، والهيئة العامة للآثار والتراث العراقية ؛ يترأسه الدكتور “سيباستيان ري” رئيس قسم بلاد الرافدين في المتحف البريطاني ، والخبير في حضاراتها .

بدأت التنقيبات في مدينة گيرسو في عام 2015 م ، وكانت جزء من برنامج لخطة واسعة من المتحف البريطاني ، والتي تم الإعلان عنها للمساعدة في حماية المواقع الأثرية والتاريخية المهددة بالزوال في كل من العراق وسوريا ، وذلك بعد حصول حوادث النهب والتدمير المستمر التي شنتها داعش في الدولتين مؤخراً .

كان من المثير للدهشة ؛ أن هذا القصر الأثري المهم للغاية لم يُكتشف إلاّ بعد وصول فريق علماء الآثار من المتحف البريطاني إلى ذلك الموقع . وقد تمّ اكتشاف گيرسو لأول مرة في عام 1877م من قبل عالم الآثار الفرنسي “إرنست دي سارزيك” . وأجريت عمليات للحفر والتنقيب بشكل مكثّف في المدينة ؛ وكانت الحصيلة باستخراج حوالي أكثر من 100,000 مائة ألف لوح مسماري خلال عمليات التنقيب المختلفة ؛ بحيث لم يكن أحد متأكداً فيما إذا كان هناك أي شيء له قيمة لا يزال يتعين اكتشافه. وكانت الاضطرابات المستمرة والحروب الدائرة في المنطقة خلال القرن العشرين ؛ قد أدّى إلى تعليق العمل في المنطقة . لكن علماء الآثار لم ينسوا مدينة گيرسو أبداً ، وقد تحقق الحلم الآن في الكشف عن أهم الهياكل الأساسية التي كانت مُشيّدة .

صرّح الدكتور “ري” لوكالة الأنباء الوطنية في المملكة المتحدة وأيرلندا
PA Media
، عن الإنجازات الرائعة التي حققها فريقه في موقع گيرسو عام 2022:

“إنه مُنجزكبير حقاً . بحيث لو تصفّحت أي كُتيّب لطلاب علم الآثار في الجامعة ، وقرأت عن گيرسو القديمة ، يذكر لك في أنه لم يتبق شيء ذي أهمية ، وهذا ما قيل لي عندما كنت طالباً !!”.

وتابع يقول : “كثيراً ما شعرت أن تلك النظرة كانت متشائمة. فإذا كان لديك مجموعة من المعدات والاجهزة التكنولوجية الجديدة ، يمكنك العودة إلى تلك المواقع التي تضررت في القرن التاسع عشر.”

واتضح اليوم أن إيمان الدكتور ري في التصميم والقدرة قد كان صحيحاً .

القصر والمعبد

فتحت تكنولوجيا المسح الجوي أبواباً جديدة لعلماء الآثار العاملين في موقع گيرسو.

ففي عام 2022 م ، كشفت صور تم التقاطها بطائرة دون طيار للموقع في “تلو”( الاسم الحديث لگيرسو)؛ عن وجود بقايا آثار تحت السطح لم تتم ملاحظتها من قبل . وسرعان ما كشفت أعمال التنقيب الحالية عن جدران مُشيدّة من الطوب الطيني ( اللِبِنْ) لقصر الملك الذي كان مُبهراً في يوم من الأيام . وقد تمّ التأكد من أن المعبد الرئيسي لمدينة گيرسو العظيمة قد تم اكتشافه مؤخراً في خريف عام 2022 .

بعد ذلك ، عثر الآثاريون أيضاً على أكثر من 200 لوح طيني مسماري مطمورة تحت أكوام من الأنقاض تعود لحفريات القرن التاسع عشر . وقد كانت هذه الألواح عبارة عن سجلات إدارية مفصّلة للأنشطة العامة في المدينة .

كان الدكتور ري متحمساً بشكل خاص لاكتشاف المعبد الرئيسي في المدينة ، والذي حدث عندما ابتدأ العمل في عام 2015 م، واكتملت التنقيبات في عام 2022م . وعن تلك الفترة ، فقد اعتبر العثور على المعبد بمثابة اكتشاف رافديني جديد في مطلع الألفية الثالثة . وكان يُطلق اسم “إينينو” على ذلك المعبد ، وهو منزل إله الحرب ” نينگرسو” ابن ربّ الآلهة السومرية ” إنليل “، ويُعد أحد المعابد المقدّسة في بلاد الرافدين القديمة .

استذكر الدكتور ري اللحظة التي وجد فيها المعبد هو وفريقه ، فأطلق عليه اسم “مقبض الباب” . والمعبد حسب وصفه في أنه ” قلب المدينة المقدّسة ” والتي يمكن مقارنتها بـ “الفاتيكان” عند روما الحديثة .

قال الدكتور ري: “وجدنا حجراً عليه نقشاً . ويُقرأ النقش كما في تلك العبارة (الملك كوديا بنى معبداً للإله نينگرسو) ، ومن ثمّ نُقش اسم المعبد . لذلك ؛ فقد عرفنا بدون أي شك ، المقصود هو هذا المعبد “.

واستغرق فريق الدكتور راي ثمانية مواسم تنقيب للكشف الكامل عن هيكل المعبد . ومع اكتمال هذا المشروع الضخم أخيراً في الخريف الماضي ؛ كانوا مستعدون للانتقال إلى موقع القصر المُكتشف الآن .

لقد عمل كادر الفريق بأكمله في حماس ، وتمكنوا من إنهاء أعمال الحفر الأولية لجدران القصر المصنوعة من الطوب الطيني قبل تعليق العمليات لبقية العام ؛ على أمل الرجوع إلى الموقع واستئناف العمل الميداني في آذار / مارس عام 2023 ، وسيتم التركيز على القصر السومري الكبير في بقية هذا العام .

بالنسبة للدكتور “سيباستيان ري” ، تُمثّل النتائج التي توصل إليها فريقه إنجازاً كبيراً ومهمّاً في علم الآثار ، وانجازاً شخصياً له أيضاً . حيث كانت لديه القناعة التامّة في دقة أفكاره ؛ في أن التقنيات المتطورة والمنهجيات الجديدة ستثبت أن گيرسو لديها المزيد من الأسرار للكشف عنها .

وتحدث الدكتور ري قائلاً :

“إنه أمر جيد ، عندما يشعر المرء بالرضا عن نفسه . إني أتذكر عندما بدأت في عام 2016 م ، لم يصدقني أحد ، ذهبت إلى مؤتمرات دولية؛ و كانوا معترضين بشدة ، وكنت أسمع منهم أيضاً : (أوه لا ، أنت تضيّع وقتك ، وتهدر تمويل الحكومة البريطانية للمتحف البريطاني )؛ هذا ما قالوه لي !! . ولكن لحسن الحظ ؛ كان لدي مؤيدون آخرون وأشخاص مقتنعين بهذا المشروع أيضاً ؛ لذا فقد انطلقنا “.

وقد أتى ذلك الثبات بثماره إلى حد كبير. وكان هناك صدى واسع لدى الأوساط العلمية الآثارية عن مشروع گيرسو القديمة ولأول مرة في عام 2019 ، وذلك عندما اكتشف علماء الآثار منطقة مقدّسة كانت تُستخدم لطقوس النذور والقرابين والاحتفالات الدينية . حيث عثر الدكتور ري وفريقه على أكثر من 300 قطعة أثرية في ذلك الموقع ، بما في ذلك الصحون والقدور و الأقداح والأواني الأخرى المستخدمة في الاحتفالات الدينية ، والتي تعود بتاريخها إلى الأسرة السومرية المبكرة (عام 2950 ـ 2350 قبل الميلاد) ؛ إلاّ أنهم الآن قد عثروا على شيء مهم وأساسي لفهم الثقافة السومرية القديمة وتنظيم المجتمع .

وأخيراً أفاد مدير المتحف البريطاني الدكتور “هارتوگ فيشر” لوكالة الأنباء الوطنية في المملكة المتحدة
PA Media
، خلال مؤتمر صحفي لتقديم أحدث النتائج في اكتشافات گيرسو، بالتصريح التالي :

” أن معرفتنا بالعالم السومري لا تزال محدودة اليوم ، وإن البحث والتنقيب في گيرسو ، واكتشاف القصر والمعبد المطمورَين اللذان قد يبوحان بأسرارهما إلينا ؛ وذلك لفهم تلك الحضارة أكثر، وإلقاء الضوء على الماضي وحزر المستقبل .”

المصدر ـ وكالة الأنباء الوطنية في المملكة المتحدة وأيرلندا
PA Media

About عضيد جواد الخميسي

كاتب عراقي
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.