القاضي الأمعي والأديب الألمعي 2/2

اسماء من يبيع ويشتري الخمر
قال ابن سيده” جلاب الخمر يسمون التُّجَّار والتجار والتجر، وَقيل الخمارون وَيُقَال للخمار نَفسه حانوتٌ وَأكْثر مَا يَقع على الْبَيْت وَهُوَ يذكر وَيُؤَنث وَقد يُسمى الْحَانُوت حانةً وخانةً وينسب إِلَى الْحَانُوت حانويٌ وحانيٌ وَكَذَلِكَ إِلَى الحانة، ويقال للحانوت الكريج والكربق فارسيان معربا. قال أبوحنيفة وَيُقَال لشراء الْخمر السبء والسباء وَقد سبأها يسبؤها سبئا وسباءاً واستباها ولايقال ذَلِك الا فِي الْخمر، ويُقَال للخمار سباء” . (المخصص3/203).

تسميات أوقات الشراب
كان لأوقات الشراب تسميات خاصة، قال النهرواني” شُرب الغَدَاةِ يُقال لَهُ فِي كَلَام الْعَرَب: صَبْوح، ويُقَالُ لشرب نصف النَّهَار: القَيْل، ولِشُرْب العَشِيِّ: الغَبُوق، ولشرب اللَّيْل: الفَحْمة، ولشُرب السَّحَر: الجاشِريَّة”. (الجليس الصالح /262).

أنواع الخمور
وقد صنفها الجاحظ الى:
1. نبيذعصير الكرم: إذا أجدت طبخه وأنعمت إنضاجه، وأحسن الدّنّ نتاجه، فإذا فضّ عن غضارة قد صار في لون البجاديّ في صفاء ياقوتة تلمع في الأكفّ لمع الدّنانير، ويضيء كالشّهاب المتّقد.
2. نبيذ عسل مصر، فإنّه يؤدّي إلى شاربه الصّحيح من طعم الزّعفران، لا يلبس الخلقان ولا يجود إلّا في جدد الدّنان، ولا يستخدم الأنجاس ولا يألف الأرجاس. وكذلك لا يزكو على علاج الجنب والحائض، ولا ينقض على شيء من الأجسام لونه حتّى لو غمس فيه قطن لخرج أبيض.
3. نبيذ رزين الأهواز: من زبيب الداقياد إذ يعود صلبا من غير أن يسلّ سلافه، أو يماط عنه ثفله، حتّى يعود كلون العقيق، في رائحة المسك العتيق. أصلب الأنبذة عريكة، وأصلبها صلابة، وأشدّها خشونة. ثمّ لا يستعين بعسل ولا سكّر.
4. نبيذ الدّوشاب البستانيّ: سلالة الرّطب الجنيّ بالحبّ الرتيليّ، إذا أوجع ضربا، وأطيل حبسا، وأعطى صفوه ومنح رفده، وبذل ما عنده، فإذا كشف عنه قناع الطّين ظهر في لون الشّقر والكمت وسطع برائحة كالمسك.
5. نبذة التّمر:إنّك تنظر إليه وكأنّ النّيران تلمع من جوفه. قد ركد ركود الزلال حتّى لكأنّ شاربه يكرع في شهاب.
6. نبيذ الجزر: منه تمتدّ النّطفة وتشتدّ النّقطة، يجلب الأحلام، ويركد في مخّ العظام.
7. نبيذ الكشمش: الذي لونه لون زمرّدة خضراء صافية، محكم الصّلابة، مفرط الحرارة، حديد السّورة، سريع الإفاقة عظيم المؤونة، قصير العمر، كثير العلل.
8. نبيذ التّين فإنّك تعلم أنّه مع حرارته ليّن العريكة، سلس الطّبيعة، عذب المذاق، سريع الإطلاق، مرهم للعروق، نضوح للكبد فتّاح للسّدد، غسّال للأمعاء، هيّاج للباه.
9. نبيذ السكّر: الذي ليس مقدار المنفعة به على قدر المؤونة فيه، هل يوجد في المحصول لشربه معنى معقول.
10. نبيذ المروّق والغربيّ والفضيح؟ ألذّ مشروبات في أزمانها وانفع مأخوذات في إبّانها. أقلّ شيء مؤونة، وأحسنه معونة، وأكثر شيء قنوعا، وأسرعه بلوغا.
11. المثل والمكسوب: النبيذ المعالج بالرماد والحرارة.

مراحل عمل الخمر
قال ابن سيده” الْأنف – أول مَا يبرز من الْخمر وَكَذَلِكَ العنفوان
والقمحان – الزّبد أَبُو حنيفَة هُوَ الشَّديد الْأَبْيَض الَّذِي ترَاهُ على وَجه الْخمر إِذا قدمت مَأْخُوذ من القمحة
والمستوتن والرضاب: مَا استحكم وَالشرَاب والشروب والشريب
الراووق: كل مَا صفيت بِهِ الْخمر أَو سكبت فِيهِ لتصفو ويرسب كدرها فَهُوَ راووق وَقد روق الشَّرَاب حَتَّى راق” . (المخصص3/197).
صراحية: وخمرٌ صراح – خالصةٌ لم تشب بمزج، وإِذا مزجت فوبئت” . (المخصص3/202).
امثال وحكم عن الخمر
من الأمثال والحكم التي ضربت في الخمر المثل: لَيست بِخَلَّةٍ وَلَا خمرةٍ، قال ابن سيده” أما قَول الْعَرَب لَيست بِخَلَّةٍ وَلَا خمرةٍ فَإِنَّهُم يذهبون إِلَى الطَّائِفَة مِنْهَا كَقَوْلِهِم سَوِيقةق وعَسَلَةٌ وضَرَبَةٌ وَقد قَالُوا مَا هُوَ بخِلٍّ وَلَا خَمْرٍ – أَي لَا خير فِيهِ وَلَا شَرّ عِنْده” . ومنها” هى الخمر تكنى الطّلاء”، قال النويري” يضرب للأمر ظاهره حسن وباطنه على خلاف ذلك”. (المخصص5/143). ومنها ” أحمق ما يكون السكران إذا تعاقل”. و” التبذل على النبيذ ظرف، والوقار عليه سخف”.(التمثيل والمحاضرة/204). و” الْيَوْم خمر وَغدا أَمر”. و”هيَ الْخمر تكنى الطلاء”. (نثر الدر في المحاضرات6/166). ومنه” ما الخمر صرفا بأذهب للعقول من الطبع”. (نهاية الأرب3/5).وقال الثعالبي” يُقَال سكر الشَّبَاب أَشد من سكر الشَّرَاب”. (ثمار القلوب/619). و” الخمر مصباح السرور، ولكنها مفتاح الشرور”. واترك النبيذ قبل أن يبلغ الحد الذي يوجب الحد”. وقول المهلبي الوزير: الشراب بغير دسم سم، وبغير نغم غم”. ( ربيع الأبرار5/16). قال اَبُو عَمْرو العرقوبي السجْزِي” اخْتصّت الْخمر مِنْهَا بِثَلَاث، فَأخذت لون النَّار وَهُوَ أحسن الألوان، وعذوبة المَاء وَهُوَ أطيب المذاقات، ولطافة الْهَوَاء وَهُوَ أرق الْأَشْيَاء”. (خاص الخاص/62). وقال أَبُو الْحسن بن فَارس” قدم إِلَى صديق لَهُ نَبِيذ التَّمْر، فَقَالَ: مَا شرابك هَذَا؟ فَقَالَ أما ترى ظلمَة الْحَلَال”. (خاص الخاص/62). خمر أبى الرّوقاء ليست تسكر”. و يضرب للغنىّ الذى لا فضل له على أحد”. (نهاية الأرب3/30). ومنها” للنبيذ حدان عقل لا هم فيه، وهم لا عقل فيه، فعليك بالأول ودع الثاني” .( ربيع الأبرار5/25). ومنها “الخمر مفتاح كل شر”. (التمثيل والمحاضرة/25). قال الثعالبي”ما جمشت الدنيا بأظرف من النبيذ”. و” ما للعقار والوقار، إنما العيش مع الطيش”. و” الراح ترياق سم الهم” و” الراح كيمياء الفرح”. و” بيد الكأس تعرك أذن الوسواس”. وقال أبو العيناء: الزبيبي نمسكود الخمر”. (التمثيل والمحاضرة/203). قال عبد الْملك بن صَالح الْهَاشِمِي”مَا جمشت الدُّنْيَا بأظرف من النَّبِيذ”. (خاص الخاص/51). وقال المأمون” النبيذ سترٌ، فانظر مع من تهتكه”. و” اشرب النبيذ ما استبشعته، فإذا استطبته فدعه”. وقال أيضا” النَّبِيذ كلب وَالْعقل ثَعْلَب”. (خاص الخاص/51). قال الجاحظ” النبيذ يرد الشيوخ إلى طباع الشبان، والشبان إلى طبائع الصبيان”. وقال ابن عباد” قدماً حملت أوزار السكر على ظهور الخمر، وطوي بساط الشراب بما فيه من خطأ وصواب”. (المصدر السابق). ” الدنيا معشوقةٌ ريقها الراح”. و” الخمر أشبه شيء بالدنيا لاجتماع المرارة واللذاذة فيها”. و” النبيذ عروسٌ، مهرها العقل”. و” الخمر مصباح السرور ولكنها مفتاح الشرور”. و” لكل شيءٍ سرٌ، وسر الراح السرور”. و” لا يطيب المدام الصافي إلا مع النديم المصافي”. وقال يحيى بن معاذ: الدنيا خمر الشيطان، من شرب منها لم يفق إلا في عسكر الموتى، نادماً خاسراً”. (التمثيل والمحاضرة/244). فلَان يطْلب الثَّمر بِلَا شوك، وَالْخمر بِلَا خمار”. (خاص الخاص/37)

خمر مدينة بابل الأجود
قال أبو الْفَتْح البستي:
عَلَيْك بمطبوخ النَّبِيذ فَإِنَّهُ … حَلَال إِذا لم يخطف الْعقل والفهما
ودع قَول من قد قَالَ إِن قَلِيله … معِين على الْإِسْكَار فاستويا حكما
فَلَيْسَ لما دون النّصاب قَضِيَّة النّصاب … وَإِن كَانَ النّصاب بِهِ نما (يتيمة الدهر4/355).
من الأمثال المضروبة” خمر بابل و لَيْسَ للبلابل كخمر بابل على غناء البلابل”. ( سحر البلاغة/15)
قال الثعالبي” الْعَرَب تتمثل بِخَمْر بابل وتراه أفضل الْخُمُور وبابل سر الْعرَاق وَيُقَال إِن بَغْدَاد من أرْضهَا فَمِمَّنْ ذكر خمر بابل بعض الْمُحدثين حَيْثُ قَالَ:
لما رَأَيْت الدَّهْر دهر الْجَاهِل … وَلم أر المغبون غير الْعَاقِل
شربت خمرًا من خمور بابل … فصرت من عقلى على مراحل
ويروى أَنه قَالَ:
رحلت عيسا من خمور بابل
ليَكُون أقوى فى طَرِيق الِاسْتِعَارَة. وَقَالَ ابْن الرومى:
أَلا ذكرا نفسى حَدِيث البلابل … بمشمولة صفراء من خمر بابل “. (ثمار القلوب/618).
وَيُقَال السكر ثَلَاث سكر الشَّبَاب وسكر الْولَايَة وسكر الشَّرَاب وَهُوَ أهونها
وَقد أبلغ هَذِه السكرات خمْسا من قَالَ وَأحسن
سَكَرَات خمس إِذا منى الْمَرْء … بهَا صَار أكله للزمان
سكرة المَال والحداثة والعشق … وسكر الشَّرَاب وَالسُّلْطَان (ثمار القلوب/620).
كما قال الثعالبي” بغض الْخمار يضْرب” مثلا لما يستثقل، وَلذَلِك قيل: لَو أَن المخمور يعرف قصَّته لقدم وَصيته وفى الْمثل مَا أطيب الْخمر لَوْلَا الْخمار. قَالَ الشَّاعِر
إِذا أَنا ميزت الْخمار وجدته … يكدر مَا فى الْخمر من لَذَّة الْخمر (ثمار القلوب/620).
كما انشد الْوَزير أَبُو مَرْوَان عبد الْملك بن جهور
ديننَا فِي السماع دين مديني وَفِي شربنا الشَّرَاب عراقي ” (يتيمة الدهر2/10).
قال أَبُو الدَّرْدَاء الْموصِلِي:
ودارت علينا الكأس بَين أهلة … تضيء وأغصان رطاب موائل
فرحنا وَفِي أجسامنا سحر بابل … يدب وَفِي إيمَاننَا خمر بابل (يتيمة الدهر5/65).

أدب الخمربات
لو أستعرضنا أدب الخمريات لوجدنا ان الأدب العربي زاخر فيه، وأجادت قريحة الشعراء بأفضل الأشعار عنه، وهذه أمثلة:
قال أبو نواس:
ولما شربناها ودب دبيبها الى موضع الأسؤاؤ قلن لها قفي!
مخافة أن يسطو علي شعاعه وتظهر ندماني على سري الخفي
قال ابو محجن الثقفي:
إذا مت فإدفني الى جنب كرمة تروي عظامي في الممات عروقها
ولا تدفنني في الفــــــلاة فأنني أخاف إذا مت ان لا أذوقهــــــــــــا
قال الصاحب بن عباد:
رق الزّجاج ورقت الْخمر … فتشابها فتشاكل الْأَمر
فَكَأَنَّمَا خمر وَلَا قدح … وكأنما قدح وَلَا خمر (يتيمة الدهر3/304).
قال أبو نواس:
دع عنك لومي فأن اللوم اغـــراء وداوني بالتي كانت هي الداء
صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها لو مسها حزن مسته سراء
فقل لمن يدعي سحــــــرا وفلسفة حفظت شيئا وغابت عنك أشياء
قال الصدر بن الوكيل:
واصل كؤوسك لا أريد فراقها فلقد رأيت عيني المدام فراقها
ومعنف في الخمر لو قد ذاقها ما لامني لكنه ما ذاقهـــــــــــا
قال سيف الدين المشد:
عَمرَت في الدن حينا فاكتسبت نبلا وفضلا
تترك الشيخ صبيا وتعيد الكهــــــل طفلا
قال الشاعر:
عمرك ما شربت الخمر جهلاً … ولكن بالأدلة والفتاوي
فإني قد مرضت بداء همي … فأشربها حلالاً للتداوي (الكشكول1/268).
وقَال الْأَعْشَى:
وكأسٍ شربتُ عَلَى لَذّةٍ … وَأُخْرَى تداويتُ مِنْهَا بهَا
لكَي يعلمَ الناسُ أَنِّي امرؤٌ … أتيتُ الْمَعيشَة من بَابهَا (الجليس الصالح /30).
ومن روائع شعر أبي نواس:
لا تبكِ ليلى ولا تطــــرب الى هند وأشرب على الورد من حمراء كالورد
كأس إذا انحدرت من كف شاربها أعدته حمرتها في العين والخد
والخمر ياقوتة والكأس لؤلوة … من كفّ جارية ممشوقة القدّ
تسقيك من يدها درا ومـــــــن فما خمرا فما لك من سكرين من بدٌ
لى نشوتان وللنّدمان واحدة … شىء خصصت به من دونهم وحدى
وقال ابو الحسن الجزار في ساقِ حانة أوقع كأس خمر على الأرض:
قلت لما سكب الساقي على الأرض الشرابا
غيــــــــرة مني عليه ليتني كنت تــــــرابا
قال أَبوِ مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرِ، وَكَانَ مُحَدِّثًا، أَنَّهُ خَرَجَ يَوْمًا إلَى أَصْحَابِهِ وَهُوَ يَقُولُ:
وَإِذَا الْمَعِدَةُ جَاشَتْ … فَارْمِهَا بِالْمَنْجَنِيقِ
بِثَلَاثٍ مِنْ نَبِيذٍ … لَيْسَ بِالْحُلْوِ الرَّقِيقِ (أدب الدنيا والدين/312)
قال أَبُو الْقَاسِم السَّعْدِيّ:
جاءتك كالنار فِي زجاجتها … حَمْرَاء مَا تَسْتَقِر من نزق
حَتَّى إِذا مَا المزاج خالطها … رَأَيْتهَا مثل صفرَة الشَّفق
كالبكر تصفر من معانقة الزَّوْج … إِذا ضمهَا من الْفرق (يتيمة الدهر5/27).
قال الأعشى في الخمر:
وَكَأْسٍ شَرِبْتُ على لَذةٍ … وَأخْرَى تَداوَيْتُ مِنْهَا بِهَا
لِكَيْ يَعْلَمَ النَاسُ أنّي امْرُؤٌ … آَتيْتُ المروءةَ مِنْ بابِها (لباب الآداب/129).
قال أحدهم:
يقول القوم لي لما رأوني … عفيفا منذ عام ما شربت
على يد أي شيخ تبت ماذا … فقلت على يد الإفلاس تبت (الكشكول2/276)

فوائد الخمر النبيذ
ذكر الجاحظ فوائد النبيذ” أنّك إذا شربته عدّلت به طبيعتك، وأصلحت به صفار جسمك، وأظهرت به حمرة لونك، فاستبدلت به من السّقم صحّة، ومن حلول العجز قوّة، ومن الكسل نشاطا، وإلى اللّذّة انبساطا، ومن الغمّ فرجا، ومن الجمود تحرّكا، ومن الوحشة أنسا، وهو في الخلوة خير مسامر، وعند الحاجة خير ناصر. يترك الضّعيف وهو مثل أسدالعرين يلان له ولا يلين”. (الرسائل الأدبية/277)
وأضاف” الجيّد من الأنبذة يصفّي الذّهن ويقوّي الرّكن، ويشدّ القلب والظّهر، ويمنع الضّيم والقهر، ويشحذ المعدة، ويهيّج للطعام الشّهوة، ويقطع عن إكثار الماء الذي منه جلّ الأدواء، ويحدر رطوبة الرّأس، ويهيّج العطاس، ويشدّ البضعة، ويزيد في النّطفة، وينفي القرقرة والرّياح، ويبعث الجود والسّماح، ويمنع الطّحال من العظم، والمعدة من التّخم، ويحدر المرّة والبلغم، ويلطّف دم العروق ويجريه، ويرقّه ويصفّيه، ويبسط الآمال، وينعم البال، ويغشّي الغلظ في الرّثة، ويصفّي البشرة ويترك اللّون كالعصفر، ويحدر أذى الرّأس في المنخر، ويموّه الوجه ويسخّن الكلية، ويلذّ النّوم ويحلّل التّخم، ويذهب بالإعياء، ويغذو لطيف الغداء، ويطيّب الأنفاس، ويطرد الوسواس، ويطرب النّفس، ويؤنس من الوحشة، ويسكّن الرّوعة، ويذهب الحشمة، ويقذف فضول الصّلب بالإنشاط للجماع، وفصول المعدة بالهراع، ويشجّع المرتاع ويزهي الذّليل، ويكثّر القليل، ويزيد في جمال الجميل، ويسلّي الحزن، ويجمع الذّهن، وينفي الهمّ، ويطرد الغمّ، ويكشف عن قناع الحزم، ويولّد في الحليم الحلم، ويكفي أضغاث الحلم، ويحثّ على الصّبر، ويصحّح من الفكر، ويرجّي القانط، ويرضي الساخط، ويغني عن الجليس، ويقوم مقام الأنيس وحتّى إن عزّ لم يقنط منه، وإن حضر لم يصبر عنه، يدفع النوازل العظيمة، وينقّي الصّدر من الخصومة، ويزيد في المساغ، وسخونة الدماغ، وينشّط الباه حتّى لا يزيّف شيئا يراه، وتقبله جميع الطّبائع، ويمتزج به صنوف البدائع، من اللّذّة والسّرور، والنّضرة والحبور. وحتّى سمّي شربه قصفا، وسمى فقده خسفا. وإن شرب منه الصّرف بغير مزاج، تحلّل بغير علاج. ويكفي الأحزان والهموم، ويدفع الأهواء والسّموم، ويفتح الذّهن، ويمنع الغبن، ويلقّن الجواب، ولا يكيد منه العتاب، به تمام اللذّات، وكمال المروءات. ليس لشيء كحلاوته فيلنّفوس، وكسطوته في الجباه والرّوس، وكإنشاطه للحديث والجلوس، يحمّر الألوان، ويرطّب الأبدان، ويخلع عن الطّرب الأرسان”. (الرسائل الأدبية/278).
ذم الخمر
ـ قال أحد الْحُكَمَاء من مثالبه أَن صَاحبه يُنكره قبل شربه، وَيَعْبَسَ عِنْد شمه، ويستنقص الساقي من قدره ويمزجه بِالْمَاءِ الَّذِي هُوَ ضِدّه، ليخرجه عَن مَعْنَاهُ وَحده، ثمَّ يكرع فِيهِ على الْمُبَادرَة، ويعبه وَلَا يمصه، ويجرعه وَلَا يكَاد يسيغه، ليقلّ مكثه فِي فَمه، ويسرع فِي اللهوات اجتيازه، ثمَّ لَا يَسْتَوْفِيه كُله، وَيرى أَن يبقي فضلَة فِي كأسه، ويشاح الساقي فِي المناظرة على مَا بَقِي مِنْهُ عِنْد رده، ليصرف عَن نَفسه عَادِية شَره، وَيسلم من مَكْرُوه عاقبته، ويتنقل بعقبه مَا يكسر من سورته، ويخفف من بشاعته، وَيمْنَع من قذفه”. (تحسين القبيح/71).
ـ قال أبو سعد الآبي” قيل لشيخ مِنْهُم: كم مِقْدَار شربك للنبيذ؟ قَالَ: مِقْدَار مَا أقوى بِهِ على ترك الصَّلَاة “. (نثر الدر في المحاضرات2/164).
ـ قيل لبَعض الْحُكَمَاء: اشرب مَعنا النَّبِيذ، فَقَالَ: لَا أشْرب مَا يشرب عَقْلِي.
ـ عَاتب الضَّحَّاك بن مُزَاحم صديقا لَهُ على شرب النَّبِيذ، فَقَالَ: إِنَّمَا أشربه لِأَنَّهُ يهضم الطَّعَام. فَقَالَ: مَا يهضم من دينك أَكثر(تحسين القبيح/70).
ملح عن الخمر
من طريف ما جاء في التراث” للنبيذ حدان، حد لَا هم فِيهِ، وحد لَا عقل فِيهِ، فَعَلَيْك بِالْأولِ وَاتَّقِ الثَّانِي”. (نثر الدر في المحاضرات6/331). قال ابو هلال العسكري” قيل لاعرابى، لم لا تشرب الخمر؟ قال: لا أشرب ما يشرب عقلى”. (الأوائل /50). قال الجاحظ” يقولون: هلك النّاس الأحامر: الذهب، والزعفران، واللّحم، والخمر”. (كتاب الحيوان3/121). وهناك المئات من الطرائف الأدبية المتعلقة بالخمر، إخترنا منها الآتي:
ـ سأل عبد الملك بن مروان إعرابيا ان يصف له الخمر فقال:
شموس إذا شجت لذي الماء مرة لها في عظام الشاربين دبيب
تريك الندا من دونها وهي دونه لوجه أخيها في الوجوه قطوب
فقال عبد الملك: إذن شربتها يا أخا العرب وعليه وجب عليك الحد! فقال الإعرابي: وكيف عرف أمير المؤمنين ذاك؟ أجابه لأنك وصفتها بصفتها! فقال الإعرابي: وأنا أيضا قد رابني من أمير المؤمنين ما رابه مني بأن يكون قد شربها حيث عرف إني قد وثفتها بصفتها، فضحك من كلامه وفطنته وأحسن مكافأته.
ـ ذكر الأصمعي بأن إعرابية عجوز مرت في طريق مكة على فتيان عراقيين يشربون النبيذ، فإستدعوها وسقوها منه قدحا، فطابت نفسها به وتبسمت، فسقوها قدحا ثانيا فإحمر وجهها وأخذت تضحك وتتفكه، ثم سقوها ثالثا، فقالت لهم: خبروني عن نسائكم في العراق هل يشربن من هذا الشراب؟ فأجابوا: نعم! فقالت: زنين وربٌ الكعبة!
ـ إجتمع فقيه ورجل من النصارى على ظهر سفينة، فأخرج النصراني قنينة خمرة وشرب منها، ثم صب كأسا ثانيا وقدمها الى الفقيه فتناولها بسرعة ولا مبالاة. فقال له النصراني: جعلت فداك إنها خمرة! فقال الفقيه: وكيف عرفت ذلك؟ قال النصراني: إشتراها غلامي من يهودي. فشربها الفقيه فورا وقال للنصراني: ما رأيت أحمق منك! نحن أصحاب الحديث نتكلم في مثل سفيان بن عيينة ويزيد بن هارون! فهل نصدق رواية نصراني عن غلام عن يهودي، والله ما شربتها إلا لضعف السند.
ـ قال ابن الجوزي” كَانَ نَصْرَانِيّ يخْتَلف إِلَى الضَّحَّاك بن مُزَاحم فَقَالَ لَهُ يَوْمًا لم لَا تسلم قَالَ لِأَنِّي أحب الْخمر وَلَا اصبر عَنْهَا قَالَ فَاسْلَمْ واشربها فَاسْلَمْ فَقَالَ لَهُ الضَّحَّاك إِنَّك قد أسلمت الْآن فَإِن شربت حددناك وَأَن رجعت عَن الْإِسْلَام قتلناك”. (الأذكياء/104). وحكى أيضا” قصّ قاص فَقَالَ إِذا مَاتَ العَبْد وَهُوَ سَكرَان دفن وَهُوَ سَكرَان وَحشر وَهُوَ سَكرَان فَقَالَ رجل فِي طرف الْحلقَة هَذَا وَالله نَبِيذ جيد يُسَاوِي الْكوز مِنْهُ عشْرين درهما”. (الأذكياء/146)
ـ قال الزمخشري” اجتمع شريك بن عبد الله ويحيى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن البصري في دار الرشيد، فقال يحيى لشريك: ما تقول في النبيذ؟ قال: حلال، قال: فقليله خير أم كثيره؟ قال: قليله، قال: ما رأيت خيرا قطّ إلّا والإزدياد منه خير إلّا خيرك هذا، فإن قليله خير من كثيره”.( ربيع الأبرار2/59).
ـ قال النويري” حكى أن المهدىّ خرج للصيد فغلبه فرسه حتى انتهى به الى خباء لأعرابىّ، فقال: يا أعرابىّ، هل من قرى؟ قال نعم، وأخرج له فضلة من خبز ملّة فأكلها وفضلة من لبن فسقاه، ثم أتى بنبيذ في زكرة فسقاه قعبا. فلما شرب قال: أتدرى من أنا؟ قال: لا والله. قال: أنا من خدم الخاصّة؛ قال: بارك لك الله في موضعك. ثم سقاه آخر؛ فلمّا شربه قال: أتدرى من أنا؟ قال: نعم، زعمت أنك من خدم الخاصة؛ قال: بل أنا من قوّاد أمير المؤمنين؛ فقال له الأعرابىّ: رحبت بلادك؛ وطاب مزادك ومرادك. ثم سقاه قدحا ثالثا؛ فلما فرغ منه قال: يا أعرابىّ، أتدرى من أنا؟ قال: زعمت أخيرا أنك من قوّاد أمير المؤمنين؛ قال: لا ولكنى أمير المؤمنين. فأخذ الأعرابىّ الزكاة فأوكاها، وقال: والله لئن شربت الرابع لتقولنّ: إنك لرسول الله؛ فضحك المهدىّ. ثم أحاطت بهم الخيل، فنزل أبناء الملوك والأشراف؛ فطار قلب الأعرابىّ؛ فقال له المهدىّ: لا بأس عليك! وأمر له بصلة. فقال: أشهد أنك صادق، ولو ادّعيت الرابعة لخرجت منها”. (نهاية الأرب4/8).
ـ قال النويري” قال رجل لإياس: هل ترى علىّ من بأس إن أكلت تمرا؟ قال لا. قال: فهل ترى علىّ من بأس ان أكلت معه كيسوما؟ قال لا. قال: فإن شربت عليهما ماء؟ قال: جائز.
قال: فلم تحرّم السكر، وإنما هو ما ذكرت لك؟ قال له إياس لو صببت عليك ماء هل كان يضرّك؟ قال لا. قال: فلو نثرت عليك ترابا هل كان يضرّك؟ قال لا.
قال: فإن أخذت ذلك فخلطته وعجبته وجعلت منه لبنة عظيمة فضربت بها رأسك هل كان يضرّك؟ قال: كنت تقتلنى. قال: فهذا مثل ذاك”. (نهاية الأرب4/11).
الخاتمة
كلمة أخيرة للنواب الأمعيين: النواب العادلون والنزيهون وان كانوا يحتسوا الخمر هم أشرف وأفضل لشعوبهم بكثير من النواب الظالمين والفاسدين الذي لا يشربون الخمر، لأن ضرر الخمر عليهم شخصيا وشأنهم فيه مع الله تعالى، ولكن ضرر الظلم والفساد على الشعب كله، وشأنهم فيه مع الله والشعب المبتلى بهم.
علي الكاش

About علي الكاش

كاتب ومفكر عراقي . لدي مؤلفات سابقة وتراجم ونشرت ما يقارب 500 مقال ودراسة. لدي شهادة جامعية في العلوم السياسية واخرى في العلاقات الدولية شاركت في العديد من المؤتمرات الدولية لدي خبرة واسعة جدا في الكتب القديمة والمخطوطات
This entry was posted in الأدب والفن. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.