يوميات نصراوي: حكايتي مع النقد والنقاد

 لست استاذا في النقد الادبي ، انا قارئ متذوق للأدب ، وحسب مارون عبود، الذائقة الأدبية هي أفضل معيار نقدي، وعلى اساسها مارس أعظم النقاد العرب والأديب الأبرز في ثقافتنا العربية ( مارون عبود ) عمله النقدي، الابداعي والثقافي الخالد. نفس الظاهرة نجدها لدى الناقد الكبير محمد مندور. الناقد والأديب والمحاضر الجامعي أفنان القاسم وصفني مرة بأني “عارض جيد”.. وأعتقد انه كان مصيبا تماما لأني أصلا دخلت باب النقد تحديا للتجاهل الذي كان من نصيبي ونصيب جيل كامل من الأدباء الناشئين.. كانت البداية حين حضرت ندوة حول النقد، تحدث فيها عدد من الأسماء المعروفة في مجال النقد المحلي، وردا على تساؤلي حول تجاهل كتاباتي وكتابات الأدباء الشباب آنذاك، منهم مثلا الأديب المرحوم عفيف سالم، الذي كان وقتها نشيطا جدا في كتابة القصة القصيرة، رد احد النقاد البارزين، بانه كتب عن كل الأدباء الذين اصدروا مجموعات قصصية او دواوين شعرية. أجبته، هل هذا مقياس سليم؟ انا مثلا لدي عدد من القصص لأكثر من اربعة مجموعات قصصية، لم اجد أي استجابة من الناشرين، وفيهم دار نشر انشأها الحزب الشيوعي الذي انا عضو نشيط فيه. بينما نشروا لكل اعضاء الحزب من الصف الأول تنظيميا وسياسيا وليس بسبب تميزهم الأدبي عن كتاباتنا. هل مقياس اصدار كتاب يجعل الأديب مرموقا يستحق ان يتناوله نقادنا المحترمين بالنقد؟ الا توافقون معي ، ان قصة وحيدة لكاتب ما قد تكون اجمل من عشرات القصص التي تصدر في مجموعات قصصية؟

طبعا لم اتلق جوابا.. انما ضحكات صفراء!!
خرجت من الندوة وانا على يقين ان النقد في أدبنا المحلي هو كتابه لا علاقة لها بالإبداع الأدبي، بل بعلاقات الناقد مع اصحاب الأعمال الأدبية. حتى بعد ان أصدرت المجموعة الأولى، لم اجد من يقوم بمراجعتها ، الا بعد سنة تقريبا، وكانت مراجعة نقدية جيدة كتبها الناقد المرحوم د. حبيب بولس وهي المراجعة الوحيدة من نقاد في أدبنا المحلي التي يمكن اعتبارها نقدا جادا لكتاباتي، أما النقد الجاد الوحيد الذي عالج قصصا لي، وكانت بالأساس قصصي عن الانتفاضة فهو الأديب والناقد السوري محمد توفيق الصواف، في كتابه النقدي الممتاز “الانتفاضة في أدب الوطن المحتل”. (موجود كاملا في الانترنت)
رغم اني اصدرت فيما بعد اكثر من عشرة كتب بين القصة القصيرة والرواية والمسرحية والنقد الأدبي ، لم أحظ الا بمراجعة واحدة بائسة من ناقد محلي، رغم انها مديح بلا شواطئ، لكني لاحظت عدم وجود علاقة بين نص الكتاب وموضوعاته الفكرية والنقدية وبين ما كتبه الناقد المحترم ، لذلك رفضت ان انشر المادة في مجلة ثقافية كنت احررها. لأن ما يشغلني الموضوع الفكري الثقافي وليس المديح الشخصي!!
من هنا قررت ان أخوض معمعة النقد بدون ان أملك أي مفاهيم او أدوات فكرية نقدية الا تأثري الكبير بأسلوب المعلم العظيم مارون عبود. وبدأت أفهم النقد بجوهره بانه حالة ابداع أيضا يحركه ليس فقط رد الفعل السلبي أو الايجابي من قراءة النص، انما الرؤية الثقافية الشاملة والمتكاملة التي تتفجر تلقائيا دون قرار مسبق من العقل ، وما عدا ذلك كل ما يكتب يقع في باب الإنشاء البسيط.
اعترف اني دخلت بابا النقد ارتجالا.. كتبت رأيي وانطباعاتي الذوقية بصراحة كانت مؤلمة للبعض رغم ان دوافعي للكتابة النقدية او العرض النقدي.. كانت ايجابية، واجهت شبه حرب أهلية، العابسين أكثر من المبتسمين. حصلت على اهم نيشان ثقافي، بان مقالاتي تسبب التوتر للبعض…والكثيرون ينتظرون ما سيكتبه نبيل عودة…
لم اكن معاديا لأي أديب بل كنت صريحا ربما بشكل مبالغ ليس لأني على خطأ.. انما لأن ثقافتنا النقدية تعودت على المدائح والتصفيق والتشجيع، كأن الناقد يسوق نفسه ليكسب شعبية وتصفيق مثل ما يكسبها مسجل الأهداف في لعبة كرة قدم.. ولتذهب الثقافة الى الجحيم !!
بصراحة هذا الواقع انعكس سلبا على تطور ثقافتنا.. بل أقول انه شل الابداع لدى الكثيرين الذي اوهمهم النقاد انهم بلغوا القمة ببعض الخرابيش!!
بوضوح نحن أمام ظاهرة تضليل أدبي أصبحت معيارا مطلوبا من الأدباء الشباب، افهم ذلك وحذرت منه.. لكن الجميع يحب التصفيق. للأسف المهزلة النقدية مستمرة وليعذرني الأدباء على صراحتي القاسية.. لا اكتب لأكسب التصفيق من أحد، بل سأكون راضيا اذا كثر الغاضبون.. لعلي انجح بحثهم على التفكير الثقافي العقلاني.. فقط بالتفكير العقلاني والابتعاد عن المديح الغبي ينقذون انفسهم ويطورون مواهبهم.
أجل أكرر.. يؤلمني حتى النخاع التضليل الأدبي الذي يقوم به بعض مثقفينا تحت نصوص تسمى بالنقد ، يغيب عنها النقد وتغيب عنها الذائقة الأدبية البديهية، وأكثر ما يغيب عنها المصداقية والاستقامة الادبية. هذه الظاهرة تتسع باضطراد في الثقافة العربية داخل اسرائيل ، يساعد على ترويجها في الفترة الأخيرة بعض الأدباء العرب في مقدماتهم التي تفيض بالمدائح غير المعقولة لبعض الكتب لأدباء من العرب في اسرائيل .
لست ضد رعاية الناشئة من كتاب وشعراء، بل هو واجب مقدس. ولكن بين الرعاية والدعم ، والمديح المنفلت لدرجة تنمية الوهم المجنون ، بانهم بلغوا قمة الابداع الأدبي ، ببعض النصوص التي تفتقد لأي لون أدبي حقيقي ، ولا تتعدى كونها تجارب ومحاولات لصياغة ادبية ، بات يشكل في ثقافتنا ظاهرة مقلقة ، أصبح الصمت عليها جريمة أدبية وأخلاقية. الناقد الذي لا يفقه مهمته وأثرها الكبير على مسار ثقافتنا ، يجب ان يصمت وأن يمارس ما يشاء من الالوان الثقافية … ليلعب لعبته بعيدا على ان لا يتسلل لتوجيه الأهداف غير المشروعة ، التي تكرارها يشكل خروجا عن المفاهيم الأدبية وأخلاق الابداع الأدبي .
حتى لا يفهمني خطأ الذين اتعرض لهم بكتاباتي في اطار حرية الرأي والتعددية الفكرية والذوقية ،اود ان اوضح باني أحب كل المساهمين ببناء صرح أدبنا ، كتابا وشعراء ونقاد ، لا فرق بين الذين يوفقون في ابداعهم او يتعثرون … طريق الابداع ليست “اوتسترادا” للانطلاق السريع ،انما طريق جبلية بالغة الصعوبة ، وتفترض مستوى من الوعي وتطوير الوعي ، الى جانب تطوير الخصائص الشخصية ، خصائص السيطرة على النص وقيادته ، بدل ان يقودنا ، وخصائص تنمية الملكات العقلية ، وهذا ليس وقفا على المثقفين الشباب ، بل وعلى كل مثقف يزين صدره بالألقاب الأكاديمية العليا أيضا .. لأنه ببساطة لا حدود للوعي والادراك في العقل البشري .
الثقافة لها مدلولات ابعد كثيرا من مجرد الابداع الأدبي ، الأدب هو الجانب الروحي للثقافة ،والثقافة بمفهومها التاريخي تشمل الابداع المادي ايضا ،أي انجازات الانسان العمرانية في الاقتصاد والمجتمع والسياسة ، وهذا يُحمّل الناقد على الاخص ، وكل المبدعين في مجال الثقافة الروحية ، مسؤولية كبيرة ان لا يغرقوا في المبالغات المرعبة في بعدها عن الواقع ، تماما كما في العمليات الاقتصادية والاجتماعية ، لا يمكن تجاوز الواقع بالكلمات الجميلة فقط .
الملفت للنظر ايضا ان الناقد يخرج عن المضمون النقدي يتميز بأسلوب الترويج البضائعي. مثلا قرأت في بعض الكتابات النقدية الولوج الى مسائل شخصية تماما قبل الحديث عن المادة موضوع النقد . مثلا قرات في نقد بمجلة ثقافية نقدا يتناول الشخص قبل ان بطرح أي ملاحظة نقدية حول النص. مثلا بدأ الناقد نصه النقدي بإعلان عن الأديب “صاحب البضاعة”، فكتب واصفا الأديب قبل ان يعرف القراء على مضمون نصوصه ” واسع الاطلاع مثقف ” … ” نلمس من خلال (كتاباته) التلميحات الكثيرة لمصطلحات ادبية عالمية ولأسماء لامعة في الابداع ” …. ” متبحر في قواعد اللغة ” . ربما حقا هذا الكلام صحيح لكن ما علاقته بالنقد؟
خطأ مثل هذه المقدمات انها تحول النقد الى رسالة شخصية اخوانية وليس تقييما ثقافيا أدبيا (ولا اريد ان أقول “نقديا” لأن النقد له ادواته التي نادرا ما نتقنها), وفي هذه الحالة ينطلق الناقد من الخاص بينه وبين المبدع ولا يبقي شيئا للموضوع النقدي ، أو حتى لخطاب ثقافي اولي. نجد ان وظيفة الناقد هنا لم تعد وظيفة نقدية. لا انفي ان من حق الناقد ان ينفعل بالنص. لكن ليس بطريقة تسويق لا تكسب الناقد ولا المنقود أي مكسب ثقافي. يفترض في النقد الحذر الشديد والالتزام بالمنطق النقدي البديهي، التجرد من العلاقة الشخصية وعدم تحويلها الى قاعدة نقدية اساسية ، وهس احدى مآسي نقدنا العربي في اسرائيل، ونصطدم بهذا اللون النقدي بأساليب عديدة متنوعة، تحكمها العلاقة الشخصية او القرابة العائلية.. او الصمت لمن لا يملك القدرة على الالتزام بالصدق والاستقامة النقدية … والمهم عدم الرعونة في تتويج الملوك على ثقافتنا، لأنه لا ملوك في الثقافة.. ولأن الملوك تسقط ولن يتبقى الا ملوك اوراق اللعب الخمسة .
من حقك عزيزي الناقد ان تطرب لقصائد شاعر ما, ولكن ليس من حق أحد ان يفرضه ملكا للأبداع الشعري ” مهما تجلت شاعريته بخصوبة الفكر ” كما كتبت .
مع املي ان نعود الى عقلانية ثقافية!!

nabiloudeh@gmail.com

About نبيل عودة

نبذة عن سيرة الكاتب نبيل عودة نبيل عودة - ولدت في مدينة الناصرة (فلسطين 48) عام 1947. درست سنتين هندسة ميكانيكيات ، ثم انتقلت لدرسة الفلسفة والعلوم السياسية في معهد العلوم الاجتماعية في موسكو . أكتب وأنشر القصص منذ عام1962. عانيت من حرماني من الحصول على عمل وظيفي في التعليم مثلا، في فترة سيطرة الحكم العسكري الاسرائيلي على المجتمع العربي في اسرائيل. اضطررت للعمل في مهنة الحدادة ( الصناعات المعدنية الثقيلة) 35 سنة ، منها 30 سنة كمدير عمل ومديرا للإنتاج...وواصلت الكتابة الأدبية والفكرية، ثم النقد الأدبي والمقالة السياسية. تركت عملي اثر إصابة عمل مطلع العام 2000 ..حيث عملت نائبا لرئيس تحرير صحيفة " الاهالي "مع الشاعر، المفكر والاعلامي البارز سالم جبران (من شعراء المقاومة). وكانت تجربة صحفية مثيرة وثرية بكل المقاييس ، بالنسبة لي كانت جامعتي الاعلامية الهامة التي اثرتني فكريا وثقافيا واعلاميا واثرت لغتي الصحفية وقدراتي التعبيرية واللغوية . شاركت سالم جبران باصدار وتحرير مجلة "المستقبل" الثقافية الفكرية، منذ تشرين اول 2010 استلمت رئاسة تحرير جريدة " المساء" اليومية، أحرر الآن صحيفة يومية "عرب بوست". منشوراتي : 1- نهاية الزمن العاقر (قصص عن انتفاضة الحجارة) 1988 2-يوميات الفلسطيني الذي لم يعد تائها ( بانوراما قصصية فلسطينية ) 1990 3-حازم يعود هذا المساء - حكاية سيزيف الفلسطيني (رواية) 1994 4 – المستحيل ( رواية ) 1995 5- الملح الفاسد ( مسرحية )2001 6 – بين نقد الفكر وفكر النقد ( نقد ادبي وفكري ) 2001 7 – امرأة بالطرف الآخر ( رواية ) 2001 8- الانطلاقة ( نقد ادبي ومراجعات ثقافية )2002 9 – الشيطان الذي في نفسي ( يشمل ثلاث مجموعات قصصية ) 2002 10- نبيل عودة يروي قصص الديوك (دار انهار) كتاب الكتروني في الانترنت 11- انتفاضة – مجموعة قصص – (اتحاد كتاب الانترنت المغاربية) كتاب الكتروني في الانترنت ومئات كثيرة من الأعمال القصصية والمقالات والنقد التي لم تجمع بكتب بعد ، لأسباب تتعلق اساسا بغياب دار للنشر، تأخذ على عاتقها الطباعة والتوزيع.
This entry was posted in الأدب والفن. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.