رسالة مفتوحة إلى مار بشارة بطرس الراعي الموقر

  يا صاحب الغبطة

ترددت كثيراً قبل أن أكتب رسالتي هذه ، موضوع التصريح الأخير الذي نسب لكم بشأن اللاجئين السوريين في لبنان . لأنني سأبدو متحيزاً – وأنا في الحقيقة كذلك – منذ البداية إلى جانب اللاجئين ، فهم أهلي وابناء وطني ، وأنا أنتمي إليهم ، وأتحمل مسؤولية في رفع الظلم والحيف الذي يقع عليهم . لكنني تشجعت لأنني مسيحي مثلكم ، وأنتمي إلى الكنيسة المشرقية . ويهمني أن أدافع عن شعبي وعن الكنيسة معاً ، كي تبقى كنيسة المسيح بصورتها الرسولية الناصعة ودورها الإنساني الخالد .
هل حقاً ينتزع اللاجئون السوريون لقمة العيش من فم اللبنانيين ؟ ! وهل صار من مهام الكنيسة أن تعزز الأحقاد والكراهية ، وتدفع المظلومين إلى يدي الظالم من جديد ؟ ! كان لبكركي دائماً دور في السياسة اللبنانية ، لكنه لم يكن أبداً – ولا يجوز أن يكون – بعيداً عن رسالتها السماوية وقضية الإنسان .
يؤلمني ويحز في نفسي كمسيحي أن أسمع من رأس الكنيسة المارونية ، التي عانت الظلم والاضطهاد وقاومته لعقود طويلة موقفاً لا يتعاطف مع المضطهدين والمظلومين ، بل يقف ضدهم ، ويصب في طاحونة الطغاة والقتلة . ويحزنني ، بل يقتلني ، كسوري أن يتهم اللاجئون السوريون في لبنان – ومنهم أمي ( 87 ) عاماً – بأنهم أتوا إلى لبنان لسرقة لقمة اللبنانيين وانتزاعها من أفواههم . فالخيرات السورية تعز عن الوصف . وفي سنين المجاعات والضنك المرير ، كانت سورية مقصداً لطالبي الرزق والعيش الكريم ، ومن لبنان بالذات خلال الحروب والأزمات . وهذا ليس نقيصة في اللاجئين والمغتربين ، ولا هو حظوة لبلاد الاغتراب ومِنة منها . وأحسب أن التاريخ اللبناني ينصف سورية والسوريين في هذا المجال .
أمي يا صاحب الغبطة لم تأتِ إلى لبنان لأنها جائعة ، ولم تجد خبزاً في بلدها . بل أتت طالبة الأمان والكرامة لما بقي من عمرها . وقصدت لبنان لأنها توسمت فيه وبأهله الخير ، ولنا في ربوعه أهل وأحباب وأصحاب ، لم يقصروا . فجبل لبنان وأهله من بني معروف كان على الدوام موئلاً للقاصدين ، ولم يخيبنا .
وأنت خير من يعرف المجالات التي يعمل بها السوريون على الأراضي اللبنانية ، والظروف التي يعملون فيها والطريقة التي يعاملون بها . فالمر يحلو تجنباً للأشد مرارة . وأحسب أنهم في ظل ظروفهم القاهرة يسدون ثغرة في قضاء الأعمال التي يأنف اللبنانيون عن أدائها . ولا شك أنك تعلم أن آلافاً من المسيحيين كانوا في عداد اللاجئين الذين أرغمهم نظام آل الأسد على الخروج من بيوتهم طلباً للنجاة ، ولم يكونوا عاطلين ولا متسولين . وقد أملوا مع مواطنيهم الآخرين في أن يجدوا في كنيسة مار مارون ( السوري ) وجه القديس شربل وروح القديسة رفقة ، وفي وادي قنوبين وأديرته سقفاً يوفر لهم الأمن والحماية كأهل وجيران . فالله أوصى بسابع جار ، وليس بين لبنان وسورية – على حد علمي – جيرة أحق .
أما إذا كان الأمر متعلقاً بالدفاع عن اللبنانيين الذين يمكن أن يتأثروا في سوق العمل ، فهذا مطلب حق نحترمه ويستوجب البحث . ونحن نقف معهم للحفاظ على حقوقهم ، والذنب ليس ذنب السوريين الذين يعملون بالأجور المنخفضة ، فهي الحاجة يا سيدي . ويمكن للإدارة اللبنانية أن تجد مخرجاً وحلولاً منصفة للمتضررين . خاصة وأن قضية اللجوء مؤقتة مهما طالت .
واعذرني يا سيدي على صراحتي الجارحة . فنحن لم نسمع منكم كلمة في الدفاع عن اللبنانيين إبان احتلال آل الأسد للبنان . وما أكثر المظالم التي تعرض لها اللبنانيون على أيدي جلاوزة النظام السوري تسلطاً ونهباً وانتهاكاً واغتيالاً عم جميع الطوائف والمناطق ، وحاول الوصول إلى بكركي وكنائسها بالذات . هل أذكركم بعنجر ، وما أدراك ما عنجر ، موقع الانتهاك المر للبنانيين على أرضهم قادة ومواطنين ؟ ! فطوال ثلاثين عاماً متواصلة كانت لقمة اللبنانيين ، بل كرامة لبنان وسيادته واستقلاله ومقدراته أيضاً تتعرض للاغتصاب والسرقة جهاراً نهاراً وتحت أنظاركم ، ولم يجد اللبنانيون من يدافع عنهم في وجه السلطة البعثية الغاصبة.
وهنا أَذكُرُ وأُذَكِّر بأن نخبة من المعارضة السورية ( سياسيين ومثقفين ) أعلنوا وقوفهم ضد التدخل السوري في لبنان منذ اليوم الأول . وفضحوا جميع الانتهاكات التي كان يتعرض لها لبنان الرسمي والشعبي . وواجهوا من أجل ذلك سنوات السجن الطويلة ، وكنت بكل فخر واحداً منهم . كنا ندافع عن حريتنا وحرية اللبنانيين ، عن حقوقنا وحقوقهم في الوقت نفسه بمواجهة السلطة السورية الباغية . وهل يحلم أحد بأن ينعم لبنان بالأمن والسلم والاستقرار ما لم تنعم سورية بذلك ؟ ومتى كانت حرية اللبناني وكرامته مصانتان بعيداً عن حرية وكرامة السوري جاره وشقيقه ؟
ليس من الحق والمنطق والعدل أن تستغل قضية الإرهاب ( وهي موجودة ) من أجل انتهاك الحقوق الإنسانية لللاجئين ، والإيقاع بين الشعبين الجارين والشقيقين . فلا تزر وازرة وزر أخرى .
يا صاحب الغبطة :
سيذهب بشار الأسد ونظامه وزمرته المجرمة . وستذهب معه ذاكرة الألم اللبناني من انتهاكاته وجرائمه ، وذاكرة السوريين المتخمة بجرائم وارتكابات لا توصف خلال السنوات الست الماضية . وسيبقى الشعبان السوري واللبناني ، ونبقى نحن وأنتم على طرفي جبل الشيخ ، وفوق ضفتي النهر الكبير الجنوبي ، نستأنف علاقة الوجود التاريخي والأبدي كشعبين وبلدين . ويعود اللبنانيون للتسوق من سوق الحميدية في دمشق و سوق المدينة في حلب ، ولرحلات الصيد في البادية السورية . ويعود السوريون إلى بيروت العلم والثقافة والإعلام والفن ، إلى أجواء الحرية المشتهاة سورياً منذ أكثر من نصف قرن .
نؤكد لكم بأن السوريين لن يبقوا لاجئين في لبنان ولا في أي مكان آخر . فبلادهم رحبة ، لا يستبدلونها بأوطان الآخرين . وتصميمهم على العودة الكريمة وانتزاع الحرية لا يحتاج إلى دليل . وهم يتمتعون بالإخلاص لكل كلمة طيبة أو يد كريمة امتدت بالمعروف ، ويستمرون بالثبات على قيمهم الدينية والأخلاقية والإنسانية وعلى العلاقة الأخوية مع لبنان الشقيق .
أما أنا فأحب ان أرى كنيسة الرب في موضعها الصحيح ومع رسالتها الأبدية الكونية لكل الناس . كنيسة للمسيح وأقواله وأفعاله ، وعلى خطى بولس الرسول التي بدأها من حنانيا / دمشق ، ومازلنا نحن الدمشقيين نسير على تلك البلاطات التي سار عليها منذ الفي عام .
مع فائق التحية والاحترام
جورج صبرة

This entry was posted in ربيع سوريا, فكر حر. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.