تصرف قد لا تلتقطه العين المجردة

 منحتني الطبيعة عينين كعدستي مجهر، تلتقطان أدق الأمور، وتبهرني تلك الدقائق قبل كبائرها!

…..
لكي تكون مجهريّا يجب أن تكون صافي الذهن، منفتح العقل، قادرا على التركيز، ولست متهورا
في الحكم على الغير! والأهم، لكي تكون مجهريّا يجب أن تكون آنيّا! أي يجب أن تسقط الماضي والمستقبل من حساباتك وتعيش اللحظة بعرضها وطولها وعمقها! عندما تكون كذلك ثق تماما أن كل شيء ـ مهما بدا سيئا ـ سيكون ممتعا ومفعما بالحكمة، الحكمة التي تضيء لك درب الحياة وتجعل السير فيه أسهل وأجمل وأخف ألما!
…..
دخلت مقهاي المفضل كعادتي هذا الصباح، وبدأت أرشف قهوتي وأنا أطالع صحيفتي المفضلة. ذلك المقهى الذي تعلمت منه الكثير، وأمتعتني دقائقه كما أمتعتني قهوته، وربما أكثر! لم يستطع المقهى (الذي يشبه في دينامكيته خلية النحل) أن يفوز بانتباهي الذي كان جله مركزا على طعم القهوة ورائحتها الذكية! لكن رائحة أخرى ملأت المكان فأثارت قرفي وقلبت مزاجي… التفت لأرى رجلا مشردا يحمل على ظهره حملا تعجز عنه عربة خيل، يحتل الطاولة المقابلة لطاولتي. التقط فنجان قهوته وعاد مسرعا إلى طاولته ينبش بعض محتويات حمله، وكلما نبش أكثر كلما فاحت رائحة مقززة أكثر.
….
المقاهي عموما في أمريكا تستقطب هذا النوع من الناس، لأنهم يستخدمون حماماتها، ويستمتعون بالجلوس فيها لساعات طويلة تقيهم حر الصيف وبرد الشتاء! والقانون يحميهم ويمنع أحدا من طردهم أو الإساءة اليهم…
….
لقد اشتركت مرّة في دراسة استهدفت البحث عن الأسباب النفسية والاجتماعية التي تلعب دورا في دفع الناس لتبني هذا النمط من الحياة… وبناءا على متطلبات تلك الدراسة قمت بزيارة المشردين الذين يستوطنون محطات القطار تحت الأرض في نيويورك ويعيشون هناك. كررت زيارتي على مدى أكثر من شهرين..
قابلت وزملائي خلالها الكثيرين منهم، وتحدثت اليهم، وشربت معهم القهوة والشاي، وباختصار استمتعت
بصحبتهم! شخصيا، وبغض النظر عن نتائج الدراسة التي تناولت دور المخدرات والظروف الشخصية، توصلت إلى قناعة من أن السبب الرئيسي هو الزهد في الحياة ورفض النمط الآلي (إذا صح التعبير) الذي وصل إليه الإنسان في المجتمعات المتقدمة! والأهم، رفض الضغوط التي تفرضها الحياة في مجتمع يسابق سرعة الضوء!
….
على كل حال، لم تطل مشاعر التقزز الذي رافقتني هذا الصباح كثيرا، فلقد دخل المقهى خلال أقل من عشر دقائق شرطيان “رجل وامرأة”… الشرطي وقف وراء الرجل، والمرأة وقفت أمامه، ثم مدت يدها وصافحته وقدمت نفسها، وأعقبت التقديم بعبارة: يسعدني أن أتعرف عليك! ثم وبكل أدب، سمعتها تخبره عن برامج تقدمها الولاية وتساعد أمثاله في الوقوف على أقدامهم من جديد! لم أسمع كل الحديث، لكنني فهمت أن إدارة المقهى قد خبّرت البوليس، واثنان من عناصره قدما على الفور لحل المشكلة. أكثر ما أثار انتباهي مظاهر الأدب والاحترام التي أظهرتها الشرطية وزميلها الشرطي في التعامل مع هذا الرجل، وكيف ساعداه على “ضبضبة” أغراضه والالتحاق بهما لتنقله سيارة مخصصة إلى المكان الذي سيخضع فيه لإعادة التأهيل!
ليس هذا وحسب، أثناء الحديث كان هناك زبونة تهم بالخروج من الباب وبيدها صينية مليئة بأقداح القهوة،
فركضت الشرطية وفتحت لها الباب. (هناك صورة مرفقة تظهر هذا السلوك)!
…………….
تصرف قد لا تلتقطه العين المجردة، لكن عيني المجهرية تستطيع التقاطه، بينما قلبي ينفطر حزنا على وطن تركته ورائي يحتقر الإنسان، ويدفع اليوم ثمن احتقاره!!!!!

About وفاء سلطان

طبيبة نفس وكاتبة سورية
This entry was posted in الأدب والفن, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.