إيران:عقدان من التحولات التدريجية

الكاتب الايراني محسن حيدريان
ترجمة عادل حبه

البربرية والوحشية في الشارع الإيراني التي يمارسها المتشددون

مجزرة الحرب العراقية الإيرانية

في شهر أيار قبل عشرين سنة*، حصل السيد محمد خاتمي على عشرين مليون صوت في الانتخابات الرئاسية، واختارت إيران مسيرة جديدة قائمة على مبدأ الخطوة فخطوة على طريق التحولات التدريجية. وأصبحت هذه المسيرة غير قابلة للتراجع مع الانتصار الذي أحرزه الشعب الإيراني في أيار الماضي بعد أن مرت البلاد بسلسلة من الأزمات والتحديات الكثيرة ودفعت البلاد ثمناً باهضاً أزاء ذلك. إن التحديات والانتقادات الحادة السياسية منها والفكرية والثقافية خلال العقدين الأخرين، والمقاومة المستميتة ضد الحرية والقانون والتسامح والعلاقة مع الخارج والديمقراطية والجمهورية والهوية الإيرانية، ارست الأرضية لبناء أقوى لمجتمع متعدد الأصوات في كل الميادين السياسية والثقافية في إيران، مما رسّخ واقعاً اجتماعياً .
إن تكريس مجتمع متعدد الأصوات في إيران، وتبلور عقلية إصلاحية عند كل فئات الشعب وطبقاته وعند كل المجاميع الاجتماعية والقومية والجنسية والدينية في البلاد، ما هو إلا حصيلة للنزعة الإصلاحية وليس الثورية والتحول الإرادوي الراديكالي. لأن النزعة الإصلاحية هي طريق للتغيير والتقدم القائم على منهج الخطوة فخطوة، وهو يختلف عن الطريق الثوري الذي يهدف إلى إبادة احدهم الآخر وراديكالية الأهداف، ومن الناحية العملية حذف التيارات الأخرى وإرساء نظام الاحتكار السياسي. في حين أن النهج الإصلاحي قائم على التسامح والحوار والتنازلات. إنه نهج قائم على تأمين الحقوق للجميع ولا يهدف إلى حذف الآخرين، ويشير هذا الواقع البديهي والتجربة التاريخية إلى أنه من غير الممكن توفير

ظروف أفضل لرقي المجتمع عبر عملية جراحية للمجتمع، ولا يمكن الوصول إلى الهدف المطلوب خلال يوم واحد ولا خلال اسبوع أو شهر واحد ولا عبر انتخابات واحدة. ففي خلال ثمانية عشر سنة تلت الثورة، فقدت البلاد أكثر من مليون شاب إيراني في آتون الحرب وسيطرة المتطرفين المذهبيين على كل مرافق الحياة السياسية والثقافية في البلاد، وتعرضت البلاد إلى كارثة القتل الجماعي للسجناء السياسيين في عام 1988، والبربرية الوحشية التي أحدثت صدمة قوية في عالم السياسة والفكر والثقافة والحضارة الغنية والعميقة الإيرانية. إن هذه الصدمة التي طالت كل الميادين والمؤسسات التي كانت تعد “الحقيقة المطلقة” وضعت الواحدة تلو الأخرى تحت علامة سؤآل. إن تاريخ 23 من أيار ما هو إلاّ حصيلة فكرية وثقافية موجودة تحت جلد المجتمع. إن المواجهة بين الحكم الديني والمؤسسات السياسية، وبين الثقافي والديني الحاكم وتصاعد المواجهة الانتقادية وفّرت الأرضية لبروز مفاهيم نظرية جديدة. وشكل النهج الذي اتبعه اصلاحيي الثالث والعشرين من أيار جواباً آخراً على سؤال حول كيفية التفكير في اجراء تغيير في المرحلة الجديدة. وهكذا راح مواطن هادئ ومتواضع ولد قبل سنة من انتهاء الحرب العالمية الثانية وينحدر من عائلة مذهبية في مدينة أردكان يزد إلى إيفاء دور سياسي واجتماعي جديد في الثالث والعشرين من أيار قبل 20 سنة واقترع مع 20 مليون ناخب إيراني لصالح التغيير.
إن ما يجري اليوم على طريق إرساء مجتمع متعدد الأصوات الذي أدى إلى إنهيار الكثير من الخطوط الحمراء في الحلبة السياسية والثقافية ونمط الحياة في إيران، ما كان له أن يتم بدون صياغة العقلية والذات عن طريق تغيير في عقلية المواطن نفسه. فقد تحولت المناداة بالاصلاح والتجديد في إيران اليوم إلى ثقافة سياسية يانعة، لا يتمسك بها الإصلاحيون فحسب، بل كل الفئات وكل اللاعبين السياسيين والمثقفين، بدءا من بعض شرائح الأصوليين إلى المعارضين في خارج البلاد، ومن رجال الدين وإلى الكتاب والفنانين ونجوم السينما الإيرانية المحبوبين. إن ارساء الطابع المؤسساتي للعلاقة العامة بين الحكم والمجتمع عن طريق شيوع الافكار الانتقادية وارساء قيم التسامح والحوار والتوافق في إيران هو حصيلة تجربة امتدت لمدة عشرين سنة.
لقد طرح خاتمي وعرّف أهم المفاهيم لهذه العملية وأهميتها. وقد ساعده على ذلك بشكل كبير المطالعات الفلسفية المتعلقة بهذه العملية. فلا يمكن لأية حركة سياسية وثقافية أن يكتب لها الاستقرار وذات أفق يحقق لها الهدف بدون أسس فكرية منسجمة. ولا تستثنى حركة 23 أيار من ذلك. ولهذا فرض النظام على خاتمي العزلة خلال السنوات اللاحقة. لقد درس خاتمي خلال سنتين من وجوده في مدينة هامبورغ الألمانية الفلسفة وتاريخ الشرق والغرب وجوهر التعاليم الفلسفية والديمقراطية ومبادئ “حكم الشعب” وتبناها.
إن قيام خاتمي بإعادة تعريف الكثير من المفاهيم السياسية الرئيسية على أساس موضوعة الديمقراطية، أسست لنظرة ولخطاب سياسي جديد في إيران. بالطبع سبقه في ذلك بعض ممثلي التيار الإسلامي المتنورين إلى جانب ممثلي التيار اليساري الذين شرعوا بشكل ملحوظ في إرساء ثقافة الإصلاح. ولكن خاتمي طوّر هذه المساعي على نحو خلاق من جهة، ومن جهة أخرى فإنه غرسها في أعماق المجتمع الإيراني و في الملايين من اللاعبين السياسيين والاجتماعيين والمثقفين في البلاد. وأكد على أن الإصلاح يتم من الأعلى وليس من الأسفل. وبالطبع من الممكن خلق حركة تهدف إلى الإصلاح في باطن المجتمع بهدف تعزيز جناح الجمهورية في الحكم.
ولكن الإصلاحات السلمية بالضرورة يجب أن تبدأ من الأعلى وأن يكون للمؤسسات صاحبة القرار ممثلين أقوياء وذوي اعتبار. ولهذا السبب ترسخت خلال العشرين سنة الماضية تعاريف خاتمي لمفاهيم كثيرة مثل الإصلاحية والديمقراطية و”جماهير الشعب” وحوار الحضارات والتعريف الجديد للمصالح والأمن الوطني والنظرة إلى تاريخ إيران والعالم والأحاديث التي تتسم بالحداثة والتي انتشرت على نطاق واسع في ألاف النشرات، وتبناها الكثير من الكتاب والنشطاء السياسيين في أعماق المجتمع. إن نظريات محمد خاتمي حول المسائل الأساسية في الفلسفة السياسية تلقي الضوء على مشروعية السلطة السياسية وكيفية إدارة شؤون الدولة على أساس الديمقراطية والقانون، وهي ليست شعارات تكتيكية عايرة، بل مبنية على الفكر السياسي العميق حين يشير:” الحاكم الأصلي هو جماهير الشعب، وإن للانتقاد قيمة مهمة، وخاصة انتقاد الحكام ومتصدي الحكم …… ويجب أن لا نضع الحرية في مقابل الدين”. هذه الأفكار هي التي دفعت موسوي وكروبي ورهنورد إلى تشكيل حركة الخضر، هذه الحركة التي انتشرت على نطاق واسع بين الطبقة المتوسطة وبين الصحفيين في البلاد.
لقد احتاج الإيرانيون إلى عشرين سنة كي تتحول إلى واقع اجتماعي تلك الأفكار التي طرحها خاتمي حول علاقة الدين بالحرية والأخلاق والحضارة الغربية وعلمانية الدين والنظرة الجديدة إلى المكتسبات الفكرية والمادية للغرب وتلقي الغرب للتاريخ الإيراني و “دور الأقليات الدينية والفكرية والإيرانية في هذا البلد، والدفاع عن “حقوق المواطنين الإيرانيين من غير المسلمين” من أجل بناء الغد في إيران.
ويُعد خاتمي من بين الشخصيات السياسية الإيرانية المعدودة التي أولت أهمية خاصة إلى تبلور قوة محافظة تحترم القانون ومعتدلة في الحكم الإيراني على طريق انتقال البلاد صوب إرساء نظام ديمقراطي برلماني خطوة فخطوة. والآن وبعد عشرين سنة فإن كل منطق روحاني وكل اللاعبين السياسيين المؤثرين في إيران لا ينتهجون سياسة حذف الأصوليين بل، يعملون في اتجاه قبول قواعد الحياة الديمقراطية من قبل المخالفين ويسلكون تجاههم الطريق الإيجابي.
وهناك نقطة أخرى مهمة هي أن هذا السلوك من شأنه خلق فرد إصلاحي ذي رؤيا وتفكير وثقافة، يستخدم اللغة والأدب السياسي والاجتماعي بشكل ايجابي وليس بشكل سلبي. فعلى سبيل المثال يستخدم بدلاً من شعار ” الموت للاستبداد” ، أن يرفع شعار “عاشت الحرية”، فالشعار الأول سلبي والثاني ايجابي.
ولكن من الممكن أن يبدو هذا الاختلاف أمراً “تافهاً” قد يؤدي إلى ممارسة مختلفة وطريق سياسي متفاوت. على سبيل المثال إن طرح قضية تغيير القانون الأساسي هو أمر سلبي، وكذا الحال بالنسبة إلى ” الإصلاحات في القانون الأساسي”. فحدود وتوقيت وموفقية أي مطلب أو شعار سياسي واجتماعي في ثقافة الإصلاحية يحدده توازن القوى والاستعداد الذاتي للنشطاء السياسيين والشعب.
صحيح أن عقلية الإصلاح لم تمس لحد الآن أذهان ذلك الجزء من الحكم الذي يمثل الاستبداد، ومن ضمنها ولاية الفقيه؛ ولكن تعزيز مواقع جناح الجمهورية في النظام وتوسع الحركة الإصلاحية عن طريق تعزيز مواقع قوى الإصلاحيين وأنصار الحرية في المجتمع، وتغيير موازين القوى سيؤدي آجلاً أم عاجلاً إلى تغيير في الحكم وسينهار التيار المتشدد. وفي الحقيقة إن التغيير الحقيقي لا يمس السلطة والاصطفاف في القوى فحسب، بل يمس بعض الاسس التركيبية الحقوقية للحكم بحيث يفرض التغيير. وينبغي الأخذ بنظر الحسبان أن الرابطة بين النظرية الفقهية لولاية الفقيه بالجمهورية الاسلامية لم تكن موجودة أصلاً في مسودة القانون الأساسي للجمهورية الإسلامية في عهد الحكومة المؤقتة، وإن الخميني عندما وقع على مسودة القانون الأساسي المار ذكرها كان مؤيداً لأن لا تكون مؤسسة الجمهورية الاسلامية قائمة على ولاية الفقيه.
إن الإصلاحية لم تتحدد بالفضاء السياسي الإيراني فقط. فالنمو والتوسع الكبير في شبكات المعلومات والتطور الهائل لشبكات الاتصال تركت تأثيراً تدريجياً ملحوظاً في إيران. فالدينا بأكملها تدخل كل يوم في كل بيت عبر الانترنت. إن شيوع الخبر ونشر الأحداث السياسية و الاجتماعية، وانتاج ونشر المسلسلات التلفزيونية التي يشاهدها الملايين من المشاهدين ، ومشاهدة أداء الفنانين الذين يرفعون شعارات التغيير في الأجواء الاجتماعية تعد وسائل للحد من العنف ونشر رسائل التسامح، والتي تبدي تأثيراً متزايداً على الحياة الشخصية والاجتماعية والعلاقات الانسانية في إيران.
إن تجربة عشرين سنة من المجتمع المتعدد الأصوات وتجربة خمس دورات انتخابية سياسية مثيرة قد وضعت حداً للأساليب الانعزالية والطائفية والتغني بالأمجاد في ميدان السياسة الإيرانية. إن أية مقاومة لإرادة ورضى الشعب باعتباره له الحق السياسي في الحكم ستعود بأضرار باهضة على محتكري السلطة.
إن المهمة السياسية الأخرى هي ليست التنظير وقيمته، بل تأثرها بأفكار الرأي العام. إن الأصوليون يتعرضون اليوم إلى ضغط المجتمع التعددي الإيراني وهم ينقسمون إلى ثلاث كتل بعد الانتخابات الأخيرة. لقد فشل مرشحهم المشترك رئيسي في الانتخابات الأخيرة في كسب الرأي العام الذي يطمح إلى ارساء مجتمع متعدد الأصوات، وطرح شعارات الرفاه والخطوط الحمراء. إن تحطيم المحرمات التي طرحها رئيسي في الانتخابات الأخيرة من قبل ملايين الشباب من الطبقة المتوسطة الإيرانية الذين يحلمون بالتسليات المتنوعة وممارسة أنواع الرقص والموسيقى وارتداء موضات الألبسة.
إن تجربة العشرين سنة الأخيرة أكدت بوضوح إن الإصلاحية هي هدف منتخب وثقافة سياسية. فالتحول التدريجي في العقدين الأخيرين في ايران وسياسة الخطوة فخطوة التدريجية أفرزت مكتسبات كبيرة حيث لا يمكن العودة إلى الكثير من المؤشرات ومنها:
تحول جزء مهم من الأصوليين إلى الإصلاحيين، وتحول حسن روحاني من أصولي معتدل إلى إصلاحي مستديم، وانتشر مفهوم نسبية الدين، وتغيير المجتمع من الصوت الواحد إلى تعدد الأصوات، وانتقال مصادر السلطة من المتشددين (كالحرب والعنف والعسكرة وغيرها) إلى المرونة ( كالثقافة والموسيقى والسينما والمشاركة في الانتخابات والقبول بالرقابة، والتحول من الأمة الإسلامية إلى المواطنة وتغيير مفردة الإسلامية إلى الإيرانية وحضور قوة مليونية كواسطة بين جماهير الشعب والحكم الذي افتقدته إيران في كل تاريخها السابق، ومشاركة لا سابقة لها للنساء في كافة الميادين السياسية والاقتصادية، وصعود جيل جديد من نمط الاصلاحي خاتمي وموسوي وكروبي، وتبلور آلاف المدراء والخبراء والباحثين الذين يتبنون الأفكار الإصلاحية، وأهم من كل ذلك النظر إلى التغيير والإصلاح بمثابة ثقافة سياسية اجتذبت أكثر اللاعبين السياسيين والمثقفين في البلاد. هي ذي حصيلة المكتسبات التي أفرزاها العقدان الأخيران.
قبل عشرين سنة، وقبل أن تبدأ انتخابات رئاسة الجمهورية بشهرين، وعندما كنت أقدم محاضرة في كونفرنس في مدينة مالمو السويدية، طرحت ضرورة التصويت لمحمد خاتمي وأشرت إلى المنهج الإصلاحي، وقد كان رد فعل الحاضرين سلبياً واعترضوا بشدة على هذا الطرح واستقبلت باستنكار وبدهشة. ولكن الآن فإن الإصلاحية والسير على طريق التغييرات خطوة فخطوة تحولت إلى ثقافة عند أكثرية الإيرانيين في الداخل والخارج بغض النظر عن الاتجاهات السياسية والفكرية، ولعل خير دليل على ذلك الطابور الطويل الذي اصطف في مدينة يوتبوري السويدية والذي غمره الحماس والشوق والتحلي بالوطنية للمشاركة في الانتخابات الأخيرة.
وعلى حد قول أحد الناخبين:” فإننا إذا ما صوتنا اليوم لروحاني، فسيؤدي ذلك إلى اطلاق سراح موسوي وكروبي ورهنورد وإلغاء قرار الحجر الإجباري ضدهم وتغيير تركيبة مجلس الخبراء وجعل منصب القائد انتخابياً وتحديد فترة ولاية القائد وتحويل جزء من مهمات القائد إلى سائر القوى الحاكمة وخاصة إلى رئيس الجمهورية وأمثاله.ومن الممكن أن تطرح غداً وفي ظل ظروف افضل مطاليب أخرى على طريق تعزيز الجمهورية كنظام، ولايمكن التنبؤ بما يخبئه المستقبل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*في انتخابات رئاسة الجمهورية الاسلامية الإيرانية التي جرت في أيار 1997، شارك محمد خاتمي كمرشح للإصلاحيين. وحصد خاتمي 20 مليون من الأصوات، أي نسبة 79,93% من الأصوات وبفارق 13 مليون صوت عن غريمه المتشدد ناطق نوري. وشن التيار المحافظ والمتشدد حملة واسعة ضد خاتمي متهمين إياه بخلافه مع أركان الإسلام والثورة الإيرانية.

About عادل حبه

عادل محمد حسن عبد الهادي حبه ولد في بغداد في محلة صبابيغ الآل في جانب الرصافة في 12 أيلول عام 1938 ميلادي. في عام 1944 تلقى دراسته الإبتدائية، الصف الأول والثاني، في المدرسة الهاشمية التابعة للمدرسة الجعفرية، والواقعة قرب جامع المصلوب في محلة الصدرية في وسط بغداد. إنتقل الى المدرسة الجعفرية الإبتدائية - الصف الثالث، الواقعة في محلة صبابيغ الآل، وأكمل دراسته في هذه المدرسة حتى حصوله على بكالوريا الصف السادس الإبتدائي إنتقل إلى الدراسة المتوسطة، وأكملها في مدرسة الرصافة المتوسطة في محلة السنك في بغداد نشط ضمن فتيان محلته في منظمة أنصار السلام العراقية السرية، كما ساهم بنشاط في أتحاد الطلبة العراقي العام الذي كان ينشط بصورة سرية في ذلك العهد. أكمل الدراسة المتوسطة وإنتقل إلى الدراسة الثانوية في مدرسة الأعدادية المركزية، التي سرعان ما غادرها ليكمل دراسته الثانوية في الثانوية الشرقية في الكرادة الشرقية جنوب بغداد. في نهاية عام 1955 ترشح إلى عضوية الحزب الشيوعي العراقي وهو لم يبلغ بعد الثامنة عشر من عمره، وهو العمر الذي يحدده النظام الداخلي للحزب كشرط للعضوية فيه إعتقل في موقف السراي في بغداد أثناء مشاركته في الإضراب العام والمظاهرة التي نظمها الحزب الشيوعي العراقي للتضامن مع الشعب الجزائري وقادة جبهة التحرير الجزائرية، الذين أعتقلوا في الأجواء التونسية من قبل السلطات الفرنسية الإستعمارية في صيف عام 1956. دخل كلية الآداب والعلوم الكائنة في الأعظمية آنذاك، وشرع في تلقي دراسته في فرع الجيولوجيا في دورته الثالثة . أصبح مسؤولاً عن التنظيم السري لإتحاد الطلبة العراقي العام في كلية الآداب والعلوم ، إضافة إلى مسؤوليته عن منظمة الحزب الشيوعي العراقي الطلابية في الكلية ذاتها في أواخر عام 1956. كما تدرج في مهمته الحزبية ليصبح لاحقاً مسؤولاً عن تنظيمات الحزب الشيوعي في كليات بغداد آنذاك. شارك بنشاط في المظاهرات العاصفة التي إندلعت في سائر أنحاء العراق للتضامن مع الشعب المصري ضد العدوان الثلاثي الإسرائيلي- الفرنسي البريطاني بعد تأميم قناة السويس في عام 1956. بعد انتصار ثورة تموز عام 1958، ساهم بنشاط في إتحاد الطلبة العراقي العام الذي تحول إلى العمل العلني، وإنتخب رئيساً للإتحاد في كلية العلوم- جامعة بغداد، وعضواً في أول مؤتمر لإتحاد الطلبة العراقي العام في العهد الجمهوري، والذي تحول أسمه إلى إتحاد الطلبة العام في الجمهورية العراقية. وفي نفس الوقت أصبح مسؤول التنظيم الطلابي للحزب الشيوعي العراقي في بغداد والذي شمل التنظيمات الطلابية في ثانويات بغداد وتنظيمات جامعة بغداد، التي أعلن عن تأسيسها بعد إنتصار الثورة مباشرة. أنهى دراسته الجامعية وحصل على شهادة البكالاريوس في الجيولوجيا في العام الدراسي 1959-1960. وعمل بعد التخرج مباشرة في دائرة التنقيب الجيولوجي التي كانت تابعة لوزارة الإقتصاد . حصل على بعثة دراسية لإكمال الدكتوراه في الجيولوجيا على نفقة وزارة التربية والتعليم العراقية في خريف عام 1960. تخلى عن البعثة نظراً لقرار الحزب بإيفاده إلى موسكو-الإتحاد السوفييتي للدراسة الإقتصادية والسياسية في أكاديمية العلوم الإجتماعية-المدرسة الحزبية العليا. وحصل على دبلوم الدولة العالي بدرجة تفوق بعد ثلاث سنوات من الدراسة هناك. بعد نكبة 8 شباط عام 1963، قرر الحزب إرساله إلى طهران – إيران لإدارة المحطة السرية التي أنشأها الحزب هناك لإدارة شؤون العراقيين الهاربين من جحيم إنقلاب شباط المشؤوم، والسعي لإحياء منظمات الحزب في داخل العراق بعد الضربات التي تلقاها الحزب إثر الإنقلاب. إعتقل في حزيران عام 1964 من قبل أجهزة الأمن الإيرانية مع خمسة من رفاقه بعد أن تعقبت أجهزة الأمن عبور المراسلين بخفية عبر الحدود العراقية الإيرانية. وتعرض الجميع إلى التعذيب في أقبية أجهزة الأمن الإيرانية. وأحيل الجميع إلى المحكمة العسكرية في طهران. وحكم عليه بالسجن لمدة سبع سنوات، إضافة إلى أحكام أخرى طالت رفاقه وتراوحت بين خمس سنوات وإلى سنتين، بتهمة العضوية في منظمة تروج للأفكار الإشتراكية. أنهى محكوميته في أيار عام 1971، وتم تحويله إلى السلطات العراقية عن طريق معبر المنذرية- خانقين في العراق. وإنتقل من سجن خانقين إلى سجن بعقوبة ثم موقف الأمن العامة في بغداد مقابل القصر الأبيض. وصادف تلك الفترة هجمة شرسة على الحزب الشيوعي، مما حدى بالحزب إلى الإبتعاد عن التدخل لإطلاق سراحه. وعمل الأهل على التوسط لدى المغدور محمد محجوب عضو القيادة القطرية لحزب البعث آنذاك، والذي صفي في عام 1979 من قبل صدام حسين، وتم خروجه من المعتقل. عادت صلته بالحزب وبشكل سري بعد خروجه من المعتقل. وعمل بعدئذ كجيولوجي في مديرية المياه الجوفية ولمدة سنتين. وشارك في بحوث حول الموازنة المائية في حوض بدره وجصان، إضافة إلى عمله في البحث عن مكامن المياه الجوفية والإشراف على حفر الآبار في مناطق متعددة من العراق . عمل مع رفاق آخرين من قيادة الحزب وفي سرية تامة على إعادة الحياة لمنظمة بغداد بعد الضربات الشديدة التي تلقتها المنظمة في عام 1971. وتراوحت مسؤولياته بين منظمات مدينة الثورة والطلبة وريف بغداد. أختير في نفس العام كمرشح لعضوية اللجنة المركزية للحزب إستقال من عمله في دائرة المياه الجوفية في خريف عام 1973، بعد أن كلفه الحزب بتمثيله في مجلة قضايا السلم والإشتراكية، المجلة الناطقة بإسم الأحزاب الشيوعية والعمالية العالمية، في العاصمة الجيكوسلوفاكية براغ. وأصبح بعد فترة قليلة وفي المؤتمر الدوري للأحزاب الممثلة في المجلة عضواً في هيئة تحريرها. وخلال أربعة سنوات من العمل في هذا المجال ساهم في نشر عدد من المقالات فيها، والمساهمة في عدد من الندوات العلمية في براغ وعواصم أخرى. عاد إلى بغداد في خريف عام 1977، ليصبح أحد إثنين من ممثلي الحزب في الجبهة التي كانت قائمة مع حزب البعث، إلى جانب المرحوم الدكتور رحيم عجينة. وأختير إلى جانب ذلك لينسب عضواً في سكرتارية اللجنة المركزية ويصبح عضواً في لجنة العلاقات الدولية للحزب. في ظل الهجوم الشرس الذي تعرض له الحزب، تم إعتقاله مرتين، الأول بسبب مشاركته في تحرير مسودة التقرير المثير للجنة المركزية في آذار عام 1978 وتحت ذريعة اللقاء بأحد قادة الحزب الديمقراطي الأفغاني وأحد وزرائها( سلطان علي كشتمند) عند زيارته للعراق. أما الإعتقال الثاني فيتعلق بتهمة الصلة بالأحداث الإيرانية والثورة وبالمعارضين لحكم الشاه، هذه الثورة التي إندلعت ضد حكم الشاه بداية من عام 1978 والتي إنتهت بسقوط الشاه في شتاء عام 1979 والتي أثارت القلق لدي حكام العراق. إضطر إلى مغادرة البلاد في نهاية عام 1978 بقرار من الحزب تفادياً للحملة التي أشتدت ضد أعضاء الحزب وكوادره. وإستقر لفترة قصيرة في كل من دمشق واليمن الجنوبية، إلى أن إنتدبه الحزب لإدارة محطته في العاصمة الإيرانية طهران بعد إنتصار الثورة الشعبية الإيرانية في ربيع عام 1979. وخلال تلك الفترة تم تأمين الكثير من إحتياجات اللاجئين العراقيين في طهران أو في مدن إيرانية أخرى، إلى جانب تقديم العون لفصائل الإنصار الشيوعيين الذين شرعوا بالنشاط ضد الديكتاتورية على الأراضي العراقية وفي إقليم كردستان العراق. بعد قرابة السنة، وبعد تدهور الأوضاع الداخلية في إيران بسبب ممارسات المتطرفين الدينيين، تم إعتقاله لمدة سنة ونصف إلى أن تم إطلاق سراحه بفعل تدخل من قبل المرحوم حافظ الأسد والمرحوم ياسر عرفات، وتم تحويله إلى سوريا خلال الفترة من عام 1981 إلى 1991، تولى مسؤلية منظمة الحزب في سوريا واليمن وآخرها الإشراف على الإعلام المركزي للحزب وبضمنها جريدة طريق الشعب ومجلة الثقافة الجديدة. بعد الإنتفاضة الشعبية ضد الحكم الديكتاتوري في عام 1991، إنتقل إلى إقليم كردستان العراق. وفي بداية عام 1992، تسلل مع عدد من قادة الحزب وكوادره سراً إلى بغداد ضمن مسعى لإعادة الحياة إلى المنظمات الحزبية بعد الضربات المهلكة التي تلقتها خلال السنوات السابقة. وتسلم مسؤولية المنطقة الجنوبية حتى نهاية عام 1992، بعد أن تم إستدعائه وكوادر أخرى من قبل قيادة الحزب بعد أن أصبح الخطر يهدد وجود هذه الكوادر في بغداد والمناطق الأخرى. إضطر إلى مغادرة العراق في نهاية عام 1992، ولجأ إلى المملكة المتحدة بعد إصابته بمرض عضال. تفرغ في السنوات الأخيرة إلى العمل الصحفي. ونشر العديد من المقالات والدراسات في جريدة طريق الشعب العراقية والثقافة الجديدة العراقية والحياة اللبنانية والشرق الأوسط والبيان الإماراتية والنور السورية و"كار" الإيرانية ومجلة قضايا السلم والإشتراكية، وتناولت مختلف الشؤون العراقية والإيرانية وبلدان أوربا الشرقية. كتب عدد من المقالات بإسم حميد محمد لإعتبارات إحترازية أثناء فترات العمل السري. يجيد اللغات العربية والإنجليزية والروسية والفارسية. متزوج وله ولد (سلام) وبنت(ياسمين) وحفيدان(هدى وعلي).
This entry was posted in دراسات سياسية وإقتصادية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.