حفلة وداع أمي

؟18/5/2017م-يوم الخميس, يوم عادي جدا وحرارة صيفية مرتفعة بحيث نستطيع أن نعتبر أن فصل الصيف بدأ هذا اليوم.. كانت أمي قد شربت آخر شربة ماء وابتلعت آخر حبة دواء والتقطت آخر أنفاسها في تمام الساعة السادسة مساء, منذ ساعات الصباح الباكر نهضتْ من نومها واستحمت بيديها الحمام قبل الأخير في حياتها حيث كان آخر حمام لها في مستشفى الأمير راشد العسكري(إيدون) على يد مُغسلة مختصة بغسيل الموتى وأدت صلاة الفجر حاضرا, وكنت أجلس على طاولة الكمبيوتر على عادتي كل صباح, قالت لي وقتها: اليوم حفلة ابن أختك(علاء) اليوم حفلة التخرج من الكلية, بدك تروح؟ ترى ما بدهمش يطخوا بالحفلة وكل شيء مثل ما بدك, قلت: إذا بدهم يطخوا بوصلكوا وبرجع وإذا بدهمش يسحبوا الأسلحة بستمر معكم, هزت رأسها ثم استأنفت حديثها : أعطيت بنتك 5 دنانير على شان تسرح شعرها وترقص بالحفلة, الحفله رايحه تكون عالميه..ناس اكثير جايه من هون وهناك, بعدها سعلت وقحت وقالت وهي تحرك يديها في حيرة:بس أنا يا (ميمتي) والله ومحمد رسول الله شايفه حالي تعبانه خذني على المستشفى, قلت لها: حاضر ..ماشي..تؤمري, ثم نهضتُ من على مقعدي وخرجت من مكتبتي ووقفتُ أمام باب غرفتها وقلت لها: كل مره بنروح على المستشفى وبعطوك إبرة مُدرْ بول, فشو رايك أجيب الإبره كمان شويه بس تفتح الصيدلية وجارتنا ممرضة وهي بتعطيك إياها, قالت: لا تعبانه…ثم سعلت, فنكستُ رأسي وقلت لها حاضر, بعد ثلاث ساعات اتصلت أختي أم علاء وأنا في السوق أشتري خبزا وبعض الحاجيات وقالت: شو يا أبو علي ما بدك تجيب أمي على الحفله..تعال ما بدهمش يطخوا وأبو علاء أخذ المسدس وخباه بالخزانه وسكر عليه؟ فشرحت لها وضع أمي وقلت لها اتصلي فيها, بعد أن عُدت إلى المنزل وجدت أمي قد بدلت رأيها وقالت: خلص بروح يوم السبت, قلت: يوم السبت عُطل العيادات, فقالت: مش مشكله خلينا اليوم نروح الحفله وللأحد بفرجها الله, كان نهارنا حتى هذه اللحظة عاديا, قامت بتول من النوم ولبست ملابس الفرح وتوعدتنا جميعنا بالرقص واستعدت زوجتي لدخول المطبخ لطهو آخر طاسة ورق العنب الذي تحبه أمي وقالت: بدنا نوخذ الطبيخ عند أم علاء ونوكلها قبل الحفلة وانت بنفتحلك علبة طون, ثم قالت أمي: آخر الشهر بعطيكوا 10دنانير تشتروا لبتول كندره أو صندل, فرحت بتول ذات الست سنوات من عمرها وقالت: بدي كمان أروح بالكندره على حفلة تخرجي من الروضه يوم الأحد, ابتسمت أمي وحضنتها وهي تقول: انشاء الله تتخرجي يا جده دكتوره قد الدنيا وشوفك, أما لميس فقد كانت مشغوله بالملابس التي سترقص بها في حفلة التخرج, والآن قاربت الساعة على الواحدة بعد ظهر يوم الخميس, قادت بناتي جدتهم للمرة الأخيرة في حياتها حتى وصلوا بها باب سيارتي وكنت قد تركته مفتوحا لها, ركبنا السيارة مع بناتي الثلاث ( برديس,لميس,بتول) وأمي في المقدمة وزوجتي مع بناتي في المقعد الخلفي, خرجتْ أمي من البيت على قدميها ولم نكن نعلم أنها ستعود على ظهرها, ما إن قطعنا 2 كيلو متر بعيدا عن الدار حتى بدأت أمي باجترار ذكرياتها, ذكرت جدي لأبي كم كان يحترمها لصبرها وتحملها وكم كانت جدتي لأبي أيضا تحترمها لبرها بها, قلت: أنا أشهد, ثم أضافت: تلك مديرة المدرسة التي كانت تعاملني بقسوة وذكرت شكواها ضدها أمام مدير التربية والتعليم وكم مرة استجوبتها الوزارة, قلت: ليش تحكي هذا الحكي؟ هذا الكلام كان منذ 30 سنة,ولكنها استمرت بقولها: وهذيك المديره اللي اجبرتني على غسيل برادي الإداره…واللي اجبرني على عمل الشاي وشراء الحليب, وقتها قلت: كنت أنا و(نهيل) نساعدك ونروح قبل دوام المدرسه ونشتريلهن الحليب, قالت: ولا بنسى الست ريما المسيحية قديش كانت انسانيه معي وكانت تجيب الطالبات يشطفن عني غرفة المختبر والمكتبة.. ثم شكرت غيابيا مديرة المدرسة الثانوية أم مهدي كم كانت تحترمها وكم كانت ثقتها بها كبيرة, ثم أخذت غفوة في السيارة قلت لها: يا حجه صحصحي بدنا نرقص بالحفله,قالت: صاحيه …صاحيه, ثم سألت: وين صرنا؟, قلت: في كفريوبا, بقي على وصولنا 20 دقيقة مع أزمة السير الخانقة وسط البلد يوم الخميس, وقلت لها: صدقيني ما بحب أفوت المدينة يوم الخميس على شان أزمة السير بس شو بدنا نعمل, مجبورين, البنات مبسوطات بدهن يرقصن بالحفلة ويغنن ويدبكن ..أنا حاسس إنه هذا اليوم مثل يوم العيد والكعك والزينه أو شم النسيم, عندها تبسمت أمي وقالت: يلله هسع بنوصل, حتى هذه اللحظة كان كل شيء عادي جدا ما عدا أزمة الطريق والسير والإشارات الضوئية والتفت خلفي بسبب زامور سيارة يزمر لي بشكل مكثف التفتُ خلفي كان إبن عمي وزوجته وطفلتهم يلوحون بالسلام الأخير على أمي, قلت لأمي(نازم-ناظم) ومرته بسلموا عليكِ هم خلفنا مباشرة, قالت بدهشه: شو جابهم هسع والله غريبه ثم أردفت بشفتين مرتجفتين ولسان ثقيل قائلة(الله يسلمهم)!!!كانت الشوارع تلقي عليها السلام والإشارات الضوئية برغم زحمة السير كانت تعطيها الإذن بالدخول وهي خضراء اللون تفتح لها أذرعها, قلت لزوجتي: بتعرفي إنه حتى الآن لم نمر على أي إشارة ضوئية حمراء؟ كل إشارة نمر من تحتها خضراء, ابتسمت أمي وهي تشخر وقالت: الحمد لله, قلت لها دائما كل شيء يا أمي لكي تعمليه بسرعه, لما زوجتيني زوجتيني بسرعه ولما خطبتيلي خطبتيلي بسرعه وكان بدك الخطبة والعرس في أقل من أسبوع.. خطبتيني بسرعه وأخوي كذلك وأخواتي, حتى في الطبيخ كنت لما تطبخي سريعة جدا,قالت: بقيت أنشل المي من البير اللي عمقه 11 متر في 3 نشلات-1-2-3-هُب وانه الدلو طالع, قلت: والله إني بشهد,راحت أيامك يا حجه.. إنت مثل جدي أبوكي الله يرحمه, كان كلشي بده يعمله يعمله بسرعه , ثم سألتها: شو نايمه كالعاده؟ قالت: لا سامعه كل شيء, في الآونة الأخيرة كانت أمي كثيرة النوم في النهار وهي جالسة وقليلة النوم في الليل وهي مستلقية على ظهرها, وعلل ذلك الطبيب بسبب تضخم عضلة القلب وتراكم السوائل على الرئتين وهذه الحالة منذ 5 سنوات على أبلغ تقدير, تابعت السير باتجاه الحي الشرقي(إربد) وقطعت الإشارة خضراء على دوار مخابز نبيل وقد أصبحت المسافة تبعدنا عن منزل أختي والحفلة دقيقتان أو دقيقة واحدة, نظرت لأمي وهي تكبو ناكسة الرأس منتفخة الشفتين, قلت لها: وصلنا يا حجه, قالت الحمد لله, ثم اقتربت من أذنها وقلت لها: ابتحكي لأختي ترى ما بدناش طخ هظاك اليوم مات ولد في حارتنا بسبب الطخ بالحفلات, وما أن أنهيت كلامي حتى نزل زوج أختي -وهو ابن عمي أيضا -من على الدرج وقال: يا بو علي ترى أنا خبيت المسدس عن الشباب وقلتلهم خالكوا قال: إذا في طخ انا ما باجيش أحضر الحفلة, قلت له: أي والله عفيه عليك..بدناش مشاكل, ثم قاد زوج أختي وأختي أمي إلى داخل الشقة وكان كل شيء معد سلفا لحضور حفلة عظيمة أو قُداس ديني عظيم بينما ذهبت أنا لأركن سيارتي تحت ظل شجرة زيتون قريبة من منزلهم وتبعتني زوجتي لتأخذ معها طاسة ورق العنب من طبون السياره, وعلى فكره أنا لا آكل ورق العنب وفي مثل هذه الحالة يكون غدائي علبة (طونا)كما ذكرنا في البداية.
كل شيء طبيعي, زوج أختي ينتظر الموكب الذي ذهب إلى الكلية من أجل زفة ابن أختي الخِرّيج, وأختي تقول لزوجتي: عمتي أم أبو علاء حلمت إنه راح يصير عندنا اشي مش مليح بالحفله وأنا خايفه من الطخ, وعلى فكره أمي شديدة الخوف جدا جدا جدا جدا, اضف إلى ذلك أن أحلامها تتحقق على أرض الواقع وكم تنبأت بموت أناس كثير من أقربائنا ولم تكن رؤاها في المنام مجرد أضغاث أحلام, بل كانت رؤياها لا تخطئ أبدا, وهي أيضا تشاهد وهي جالسة أخيلة كثيرة تدعي أنهم من عالم الجن..ما علينا لنكمل حديثنا عن حفلة وداع أمي: بينما أنا خرجت للجلوس مع زوج أختي على باب البيت بانتظار وصول الشباب من الكُلية تسللت أُمي للجلوس معنا واختارت مكانا مشمسا جدا, فاستغربنا من تصرفها وقلنا لها: اليوم الشمس حارقة جدا, لم تتكلم لأنها كانت ترتجف من البرد, جاءت أختي ومعها غطاء ثم أحضرت لها غطاء آخر وما زالت ترتجف من البرد, قلنا: الحجه اليوم يمكن ملفوحه خليها تدخل للداخل, قادتها أختي أم علاء للداخل بينما بقيتُ أنا بمعية زوج أختي ننتظر قافلة الحفلة وقال: بعد ساعة ستحضر الفرقة الموسيقية, وفجأة ظهرت أختي الأصغر مني وجاءت لحضور الحفلة واستغربنا لأنها على علاقة غير جيدة بالجميع أو لنقل أنها علاقة باردة من النادر أن تحضر مناسباتنا الاجتماعية ولكننا فرحنا بها وأول ما دخلت سألت عن أمي وذهبت لتجلس معها, وأنا تعبت ودخلت لأستلقي قليلا وغفوت لمدة ربع ساعة وصحوت على صوت الزوامير وإطلاق العيارات النارية, تهللت الوجوه بالفرح ودخل علاء ابن أختي واحتضنته أمي لآخر مرة في حياتها وقبلته وباركت له ودعت له بالخير, ومع أن وضعها يزداد سوء سألت عن أصغر أخت لي: فقلنا: فعلا تأخرت(ميسر), فأشارت أن نستعجلها, اتصلنا بها وكانت في منتصف الطريق فقلنا لها: جيبي معك جهاز فحص السكري,أمي تعبانه, عادت من منتصف الطريق وأحضرت معها الجهاز ولم تصبر أمي وقتها وأمرتنا أكثر من 3 مرات أن نستعجلها, جاءت أختي ومعها الجهاز ودخلت بجنون إلى حيث ترقد أمي واحتضنتها وهي مدمعة العينين فوجدنا بعد الفحص السكر عند أمي بعد الغداء بساعة 123, وهي نسبة ضئيلة جدا قياسا بستوياته المعهودة, وبعد الغداء بساعة يجب أن يكون 200 على الأقل, قالت زوجتي(عمتي ماخذه الصبح أنسولين كثير) أعطيناها محلول سكر بالماء شربته وتقيأته وسعلت, بكت عليها أختي الصغرى وقرأت عليها سورا من القرآن لترقيها, تسللت جارات أختي من على سُلم العمارة ودخلنا يسلمن عليها, في النهاية أنهيت مكالمة تلفونية مع ابن عمي بشأن الانتخابات على أن يكون الاجتماع عندي مساء الغد الجمعة, أنهيت المكالمة وصرخت زوجتي: بسرعه لُف السياره..قررنا أخذها إلى المستشفى العسكري(إيدون) بدون ملف أو كروت التأمين الصحي, ركبت زوجتي وأختي وابني في الخلف مع بتول الغالية على جدتها وقام أبناء أختي بحملها وهي على المقعد وأجلسوها بجانبي, قبلت الجميع وقالت كلمة واحدة(إبخاطركوا يا جماعه أنا مش راجعه) ثم قالت لزوجتي (لا اتحطونيش بالثلاجه..) وهذه اسطوانة سمعناها مرارا وتكرارا وكنا نقول لها في كل مره: بفرجها الله,, يبدو أنها كما وصفناها قد رأت حُلما خاصا بها هذه المرة لم تحدثنا عنه, لذلك من المحتمل أن الخوف قد قتلها , أمي تخاف جدا من الموت, أو لنقل أنها تخاف حتى من خيالها , ولم تقل بعدها أي كلمة أو حرف أو جملة, ضحكنا كثيرا وقلنا شو هالحكي !! يا ما أخذناك على المستشفى وأعطوك إبرة مدر بول وروحنا وكنتِ في أكثر من 20 مرة بحالة أسوأ من هذه الحالة, ثم ضحكتُ وقلتُ: هسع بقعدن عندك مرتي وبنتك و (علي وبتول) وأنا برجع على الدار وبجيب كروت التأمين الصحي, تحدثنا معها كثيرا وتحدثنا مع بعضنا ولم تكن تعلق ولا بأي كلمة وراحت تغط في نومٍ عميق وهي جالسة على عادتها طوال النهار ولم يكن هذا الأمرُ غريبا علينا بل هذا هو الوضع الطبيعي لأمي, ومرة أخرى كانت كل الإشارات الضوئية خضراء ولم أقف على إشارة واحدة حمراء, وكنت أراقبها وهي تتنفس وتكبو وكنت أناديها (يمه) فتفتح عينيها مثل طفل رضيع لا يعرف أين هو أو مثل تائه في صحراء واسعة لا يعرف أين هو, ومن الظاهر أنها فقدت بوصلة الاتجاهات كلها, وحين قطعنا آخر إشارة ضوئية وبقي 4 دقائق على وصولنا المستشفى كسرتُ سيرنغ السيارة بعد صالات الأفراح على طريق الحُصن, سمعنا كلنا لأمي شخرة كبيرة, كلنا فزعنا لها ووضعت زوجتي يدها على صدرها وكان ساكنا لا يعلو ولا ينخفض وصرخت منادية: عمه عمه..عمه..ثم بدأت برش الماء على وجهها حتى تصحو ولكن دونما جدوى, قرأت أختي عليها سورا قِصارا من القرآن ولكنها لم تصحو, وصل ذقنها إلى أسفل رقبتها, أمسكتُ بيدها اليسرى وكانت باردة ومرتخية ولم أشعر بنبضات قلبها الذي كان طوال حياته كبيرا ويدق لأي خطر يحدقُ بنا, زدتُ عداد السرعة ودخلت المستشفى لأصطف على باب الطوارئ, وموبايلي يرن من أخواتي, قالت الأولى وأنا أضرب جرس الطوارئ: يلله يابو علي استعجلوا الفرقة الموسيقية وصلت وتعال شوف الكل بسأل عنك,كلهم بحكوا بدون أبو علي القعده والسهره والحفله مش حلوة, بدهم الشباب يعملوا حفلة عالمية, قلت: الوضع سيء وحرج, ثم حضر فريق إسعاف كامل وقمنا بإخراج أمي من السيارة بصعوبة وزوجتي وأخواتي يقلن لي: أبو علي دير بالك إجريها (أرجلها وساقيها) دير بالك مكشوفات للناس, عندها لم أعد احتمل وصرختُ فيهن: فلاحات متخلفات..احنا بشو وانتن إبشو!! هسع هامكن إجريها؟احنا بدنا نسعفها وهذول أطباء حتى بعملوا عمليات انجاب, شو يعني!!!ودخلت معها مسرعا , عندها شعرتُ أن تغيرا دراميا قد حصل على مسلسل أحداث ذلك اليوم الذي بدأ وكأننا سنقضيه رقصا إلى أن إنتهى رقصا في الإنعاش, اتصلت بخالي أخوها الأكبر وأبلغته أن قلب أمي توقف, قال بدهشة: يا خال هاظا شيء عارض أختي شفتها إمبارح ما فيهاش اشي, قلت في نفسي: يعني شو شفتها اليوم أو إمبارح!! على كل حال بلغني شو بصير معك, وما أن أنهيت المكالمة حتى اتصلت أختي الكبرى صاحبة حفل التخرج وقالت: ها يا بو علي في داعي نلحق؟ قلت: على راحتكوا الوضع سيء, قالت: شو سيء الناس هون بلشوا بالحفلة وبستنوا فيكوا, أغلقت معها الهاتف وتوالت المكالمات من أبناء خالي وأبناء العمومة والجيران, قالت جارتنا: والله أول إمبارح شفتها ما فيهاش إشي!!!, قلت: يعني إذا شفتيها خلص جددتيلها الإقامة!!!, صارحت زوج أختي الكبرى وقلت له: جيب أم علاء بكل هدوء, الظاهر أمي توفت, جلست على الأرض في قاعة الإسعاف وبدأت أكفكفُ دموعي والناس حولي يواسونني ويقولوا: لا إنشاء الله ما فيش أشي, توالت الاتصالات وزوجتي خرجت من عندها تبكي, قلت: النهاية, عدت أراقب مخطط القلب كان عبارة عن خط مستقيم والفحوصات الأولية تشير إلى موت الدماغ خصوصا فحص بؤبؤ العين, يعني لو اشتغل القلب فإنها ستبقى في غيبوبة(موت سريري), قلت للطبيب: عندها سوائل وتضخم في عضلة القلب وسكري وضغط وقولون عصبي , هز رأسه قائلا معروف ثم سحب الممرض عينة دم للفحص الكيميائي, تذكرتُ أخي الصغير اتصلت به وسألته شو بتعمل: فقال: أنا يا بو علي زعلان من جوز أختك وما بديش أحضر الحفله, قلتله: شو حفله وما حفله تعال على المستشفى العسكري الحفله صارت بالمستشفى.. أمك توقف عندها القلب: على الفور بكى وقال: أمي ماتت!! قلت: لالالا ما ماتتش بس وضعها صعب وأعطيني رقمك العسكري على شان ملف الدخول, أنهيت معه المكالمة وتوالت عشرات الاتصالات من الذين كانوا قد جهزوا أنفسهم للرقص والدبكات في حفلة التخرج, أخبرتهم بسوء الحال, والتفتُ إلى الطبيب سائلا: اعطيتوها ( أدرينالين) بالوريد؟ قال: 5 أبر وبدون نتيجة, عندها تأكدتُ من خبر الوفاة, أما خالي أخوها الأكبر فلم يكن مصدقا واتصل يسأل: شو صار يا خالي؟ في داعي آجي, قلت له: بسرعه الظاهر أنها توفت, وما أن أغلقت الموبايل حتى خرج فريق الإسعاف وأمي على السرير وأدخلوها قسم الإنعاش(i.c.u).
———————————————————–
الآن لم يعد هنالك شك أن الحفلة تغير مسارها وأن الذين كانوا سيرقصون في الحفلة سيأتون الآن لعرض مواهبهم في الرقص والنواح أمام الأطباء وبأن ساحات المستشفى ستكون هي الأوكسترا وسيعزف الصداحون لحن الرجوع الأخير, وسأقود أنا الجوقة الموسيقية, وما هي إلا دقائق حتى حضر أخي ولكن بعد فوات الأوان, وحضر أناس كثر منهم من أعرفه ومنهم من لا اعرفه حتى ضجت إدارة المستشفى وأمرونا بالخروج, أعلن الأطباء وفاتها رسميا, وسبلوا عيونها وغطوا وجهها, واسدلت الستارة على 70 عامٍ من النضال والكفاح وقوة الصبر والتحمل, أثبتت أمي خلالها أنها شهيدة وقديسة ربت أيتاما وعلمت بناتها في الجامعات وخدمت في المدارس الحكومية عاملة ناهضة تحتمل اذى مديرات المدارس اكراما لنا, صرخ أخي صراخا وعويلا كبيرا وحضر صاحب حفلة التخرج(علاء) ودبك ورقص في قسم الانتعاش حزنا وألما, أخواتي اللواتي كنا مستعدات للرقص رقصن في ساحة المستشفى وفي الممرات الضيقة, بتول ذات الست سنوات جلست بقربي تبكي وتقول ( الجده ماتت), لو كنت أنت عزيزي القارئ حاضرا لرأيت مشهدا تراجيديا أو لرأيت مسرحية كوميدية تحولت بمنولوجها الداخلي إلى مسرحية تراجيدية محزنة ومقلقة, كانت نهاية شكسبيرية بحق وحقيقي, والأطفال الذين اشتروا المفرقعات لفرقعتها في حفلة التخرج نقعوها في الماء وتفرقعت عيونهم وفاضت كسحابة ماء من الدموع, والذين اشتروا الملابس الجديدة من بنات وشباب ليتغاضوا بها أمام بعضهم لطخوها بغبار ساحات المستشفى على البلاط وعلى الساحات الإسفلتية وعرضوها على الأطباء ومنهم من مزق جزء منها ليس بسيطا , وكان من المقرر أن يجتمع أقربائي في منزلي يوم الجمعة لبحث موضوع انتخابات البلدية, كانوا فعلا قد حضروا جميعهم إلى المستشفى وامتلأ المستشفى بالزوار والفرقة الموسيقية التي كانت تستعد للعزف قبل أن تنزل بمعداتها في ساحة الحفل تحولت إلى المستشفى واصطفت أمام ثلاجة غسيل الموتى, أخواتي رفضنا وضعها في الثلاجة على حسب وصيتها والآن الساعة تمام السابعة والنصف مساء, جاءت المغسلة وقررت أخواتي دفنها اليوم بعد صلاة العشاء-18-5-2017م, فوجئتُ بعشرات السيارات التي جاءت لتشييع الجثمان, تحركنا من المستشفى إلى القرية على مسافة 16 كيلو متر, وحين وصلنا الدار لم أجد لي موضع قدم, كان ابناء خالي قد رتبوا كل شيء هم وأولاد عمي, وصلنا البيت ومكثنا حتى موعد صلاة العشاء, طرنا بالنعش طيرا إلى المسجد وصلينا عليها العشاء صلاة الجنازة, كان الحضور مهيبا رغم أن كل شيء حدث بسرعة, سبحان الله, أمي دائما كل شيء لها سريعا حتى جنازتها وموتها, وصلنا إلى المقبرة ..ألقي فينا الشيخ خطبة جميلة ثم نظر لي وقال: الذين يكتبون ضد الإسلام ويلٌ لهم من مثل هذا اليوم, قلت في نفسي: ابن عمي هذا مثل المثل اللي بقول: أجا يعاونه على قبر أبوه سرق الفأس وانهزم,ثم أنه بعد ذلك أحسن لنا في عزائنا برغم خلافنا الفكري.. ثم أنني لستُ ضد الإسلام!!!.

عدنا إلى البيت وكأننا كنا في حلم..في لحظة ماتت أمي وأصبحت ذكرى,كانت أول روائية قرأتُ على شفتيها ملحمة الزير سالم وسيف بن يزن وحسن الشاطر ومحمد الشاطر وعلي الزئبق,والحجارة الزرقاء, ونص انصيص بالخم بذبح بالأم,والسبع بحور, وكانت مبدعة بالسجع رغم أنها لم تكن تفك الخط.. بعد 6 أيام اصطحبتُ معي بتول ذات الستة سنوات إلى المقبرة وفوجئتُ أنها أحضرت معها صورا من حفل تخرجها في الروضة والكندرة التي اشترتها وقالت: شوفي يا جده اشتريت كندره على حسابك مثل ما وصيتي وتخرجت يوم الأحد, لم أستطع الصمود أمام هذا المنظر المحزن وانهرت وجثوت باكيا على ركبتي,أما أخواتي فقد لمن أنفسهن لأنهن هن من اقترح عليها تأجيل الذهاب إلى المستشفى حتى يوم الأحد, كانت على القبر جلسة تقييم للأحداث, اصطلح على قبر أمي كثيرا من أقربائي المتخاصمين, وسلم رجال ونساء على بعض رغم أنهم لم يتصافحوا منذ 20 سنة , أكثر من شعر بغيابها (بتول) لقد كانت علاقة أمي ببتول ومحبتها لها لا تضاهيها أي محبة وخصوصا أن بتول نسخة طبق الأصل عن أمي في الصوت والصورة, وكانت أمي دائما ما تقول: هذي بنتي أنا مش بنتكوا.

About جهاد علاونة

جهاد علاونه ,كاتب أردني
This entry was posted in الأدب والفن, دراسات علمية, فلسفية, تاريخية. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.