لو لُدغت من مليون شخص، ليس شرطا أن تلدغ من الشخص رقم مليون وواحد

أهدتني صديقتي سحر نبتة من نوع الصباريات هي تعرف عشقي للزهور والورود، ليس هذا وحسب، بل تشاركني هذا العشق!
….
في حديقتي عشرات الأنواع من الصباريات، لكن بالصدفة كانت نبتة سحر الأولى من نوعها في تلك الحديقة! بعد فترة ـ وكعادتي ـ حاولت أن أنقلها من الوعاء الذي كانت فيه إلى وعاء آخر لسببين:
الأول ـ كي أغيّر التربة إلى تربة أخرى خاصة بالصباريات وغنية بالعناصر اللازمة لانتعاشها
والثاني ـ لأنني اكتشفت ان الوعاء الأصلي لا يملك ثقبا في أسفله الأمر الذي قد يؤدي إلى تراكم المياه، التي عادة تقتل الصباريات! لكنني عجزت أن أفعل ذلك… أمتلأت يداي بالشوك رغم القفازات السميكة التي ارتديتها، فيأست من الأمر وتركت النبتة على باب غرفة مكتبي، لأمتع نظري كل يوم بها…
…..
أحد الأيام، وكما واضح في الصورة، انهمر المطر غزيرا وملأ الوعاء… لاحظت بعد أيام أن الجذور قد تعفنت وبدأت النبتة تذبل من شدة الإعياء… فرّغت الوعاء من الماء بقدر ما أستطيع محاولة أن أتجنب لمس النبتة كي لا انتهي بالآلام التي انتهيت بها
في المرة الأولى…. ثم تجاهلت الأمر مشغولة بالحياة، حتى هذا الصباح!!!!!
…..
أزهرت نبتة سحر ثلاثة شموس…. أّّذهلني جمال الزهرات، وشعرت ـ بمجرد النظر إليها ـ أنني في عالم لا ينتمي إلى عالم الأرض، زرفت دمعة ورحت ألتقط بعض الصور!
…..
زرفت دمعة لأنّ تلك النبتة تجسد حقيقة العلاقات البشرية! الحياة كلها علاقات، وعلاقاتها معقدة للغاية ومليئة بالأشواك…
نجاح أي انسان يعتمد على نجاح علاقاته بالناس وبالأشياء من حوله، وبالتالي يعتمد على قدرته على تحمّل الأشواك!
تربطك بكل انسان علاقة… تربطك بكل شيء من حولك علاقة… تربطك بالكون كله علاقة…
….
لقد أثبتت الدراسات أنك لو ركبت باصا في مدينة ما، في بلد ما لا تعرف من أهله شخصا واحدا، ستجد ـ لو بحثت ـ أن كل شخص في هذا الباص يبعد عنك فقط خمسة أشخاص.
كيف؟
لو قمت بدارسة لوجدت أن هذا الشخص يعرف شخصا آخر، وهذا الآخر يعرف آخر، وهذا الآخر يعرف آخر…. بعد خمسة أشخاص فقط ستكتشف أنك تعرف الشخص الخامس الذي يربطك بالشخص الذي صادفته في الباص! الأمر الذي يؤكد أننا كلنا موصولون ببعض، وأنت ـ من تقرأ رسالتي الآن ـ موصول بفنجان القهوة الذي في يدي…. موصول بطاقته… المفكرة والفيلسوفة الأمريكية
Caroline Myss،
في كتابها
Anatomy of the spirit،
أي “تشريح الروح”، تطلق على ظاهرة “التواصل” هذه تعبير
“All is one”،
أي “الكل واحد” وتتابع قولها:
Each of us must learn to honor this truth
كل واحد فينا ملزم أن يتعلم ليحترم ويكرم تلك الحقيقة!
…..
العلاقات البشرية مليئة بالأشواك، وأحيانا ـ حتى لو لبست قفازات سميكة جدا ـ ستمتلئ يداك من أشواك بعضها… لكن لو تحلّيت بالصبر ودماثة الخلق وتوسمت في الناس ـ على اختلاف مشاربهم ـ خيرا لابد أن تزهر علاقتك بهم، كما أزهرت صبارة صديقتي سحر حتى بعد أن تعفن جذرها!! أقول “على اختلاف مشاربهم” لأن الكل في حقيقة الأمر “واحد” وتمييزنا ضد الآخر يستنزف طاقتنا وينهكنا روحانيا، لأنه فعل يعارض حقيقة كونية…
….
المشكلة الأكثر تعقيدا أن الإنسان يحكم على كل علاقة من خلاله تجربة خاضها في علاقة تسبقها، وهذا ليس عدلا… تعلم أن تقيّم كل علاقة بمعزل عن استنتاجاتك السابقة، فلكل شخص فرديته، ومن الخطأ أن تضيع عليك فرصة معرفة شخص خوفا من أن يكون كغيره! فلو لُدغت من مليون شخص، ليس شرطا أن تلدغ من الشخص رقم مليون وواحد.. كن حذرا، ولكن لا تعمم!
المثل يقول: ينفخ اللبن لأنه اكتوى بالحليب… وأنا أقول: ليس عدلا، فللبن فرديته وهو يُشرب عادة باردا، ولا حاجة لأن تنفخه، كي لا تخلط بينه وبين الحليب! قليل من الصبر وبعض الخبرة واليقظة تُظهر لك معدن الإنسان قبل أن تحكم عليه أو تتورط بعلاقة معه!!
….
هناك أحكام ودساتير تحكم العلاقات البشرية، ومن الضروري جدا الالتزام بها من أجل نجاح تلك العلاقات…. دعني أسهل عليك الأمر، وأبسط عليك أهم تلك الأحكام والدساتير: لكي تنجح علاقاتك بالناس ارسم حولك ثلاثة دوائر، الدائرة الصغيرة لا تسمح لأحد بدخولها إلا أقرب المقربين لك، وعندما لا تجد من تثق فيه ليس عيبا أن تكون وحدك داخل تلك الدائرة!
ثم تأتي الدائرة التي تليها، اسمح لاصدقائك واقربائك ومعارفك الذين ترتبط معهم بأواصر صداقة أن يكونوا فيها.
أما الدائرة الثالثة، فضع فيها الأشخاص الذين تفرض عليك الحياة أن تقابلهم وتتعامل معهم، وهم ليسوا خيارك! خصوصياتك يجب أن تكون متاحة وملك فقط لمن في الدائرة الأصغر، وأخبارك التي لا تشمل تلك الخصوصيات لا مانع أن تكون متاحة لمن في الدائرة التي تليها…. أما الأشخاص في الدائرة الثالثة والأكبر فيجب أن لا يعرفوا عنك إلا ما يلزم لتسهيل الامور بينكم!
وليس عيبا ان تغيّر موقع بعض الأشخاص من دائرة إلى أخرى بناءا على نتائج التعامل معهم… لكن كما تنفرد بخصوصياتك عليك أن تحترم خصوصيات الآخر… لا تسأل أحدا عن أمر يؤلمه… بالمقابل تجنب من ينقر على عصبك الحساس، أو يشدك من اصبعك المجروحة، فهو ليس أهلا ليكون صديقك!
…..
أسوأ الأشواك وأغلظها في العلاقات البشرية تنجم عن تجاوز الناس لحدودهم، محاولين أن يتطفلوا على خصوصيات الغير!!
نعم كل مشكلة في أي علاقة تعود في منشأها ـ بشكل أو بآخر ـ إلى ضبابية الحدود وعدم وضوحها منذ بداية العلاقة! بالمقابل كل علاقة ناجحة هي علاقة يرسم كل طرف من أطرافها حدودا واضحة حوله، ولا يسمح للطرف الآخر بتجاوزها،
وهو بدوره لا يتجاوز حدود الآخر! لذلك، تعلم فن الرسم، وابدأ برسم تلك الدوائر الثلاث حول نفسك والتزم ـ والزم الآخرين ـ بها. عندها ستحمي نفسك من الكثير من الأشواك، دون الحاجة لأن تملك قفازات سميكة!
….
في كتابه
The Power of Now،
يعتبر الفيلسوف الألماني ايخارت تولي، أن التوحد في اللحظة الآنية هو أعلى مراحل الاستنارة عند الانسان، بينما يعتبر الإزهار هو أعلى مراحل الاستنارة عند النبات.
صديقتي سحر: لقد وصلت صبارتك أعلى مراحل الاستنارة، وآمل أن أتوحد فيها يوما فترفعني إلى حيث وصلت، علّني اُزهر!!!
على كل حال، أنت وهي وشموسها الثلاث في دائرتي الأصغر!
احبك….

About وفاء سلطان

طبيبة نفس وكاتبة سورية
This entry was posted in فكر حر. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.