الكريم الحقيقي لا يعطيك مقابل أن تعترف بجميله

منذ أسابيع دعاني عماد إلى حفلة غداء في بيته… كانت رائعة والتقيت خلالها بمجموعة من السوريين الذين وجدت نفسي فيهم! ومما زاد اللقاء بهجة السكينة التي تشعر بها وأنت تتأمل البحيرة الممتدة أمام ناظريك، والتي تصلك بالأفق البعيد حيث يسكن الله! لكنني لم أر أخاه سمعان، فاستغربت ولم أسأل.
…..
تعرفت على عماد منذ سنة، وعرفت من خلال لقائنا الأول أنه هاجر إلى أمريكا منذ أربعين عاما، وأنه رجل أعمال كبير وناجح جدا. في نفس اللقاء الاول تعرفت أيضا على أخيه سمعان. وكان قد مضى على وجوده في أمريكا عامان، هاربا من لظى الحرب السورية! هرب مع زوجته وابنتيه، واستقبله أخوه عماد وساعده كي يقف على رجليه، وأبدى سمعان خلال لقائنا الأول الكثير من الامتنان لمساعدة أخيه عماد!
….
بالصدفة المطلقة وبعد اسبوع من حفلة الغداء ببيت عماد التقيت بسمعان، وبدا سعيدا جدا لرؤيتي… جلسنا في ركن منعزل نتبادل أطراف الحديث، الذي شعرت خلاله أنه كان كبالون نُفخ حتى آخر حد للاستيعاب، ثم وبابرتي الحادة ثقبته… لم أكد أذكر اسم عماد حتى انفجر سمعان باكيا وشاكيا ومقهورا حتى نخاع عظمه! مسكت يده، وتوسلت إليه أن يهدأ من روعه.. فهمت أنه وبقدومه إلى أمريكا قد فرّ من تحت الدلف لتحت المزراب (مثل سوري شعبي ويعني من سيء إلى أسوأ)، طبعا على حد تعبيره!
……
كان عماد كريما إلى حد لا يوصف ـ بناءا على وصف سمعان له ـ، ولكنه كان فظا ومجردا من العواطف ـ أيضا بناءا على وصف سمعان له ـ!!! أعطى عماد أخاه سمعان وعائلته مايكفيهم من ماله، لكنه، وبنفس الوقت، راح يتصرف بطريقة تهينه وتحط من قدره! ضرب لي سمعان بعض الأمثلة، واليكم بعض من هذا البعض:
في اجتماع غدا مع بعض الاصدقاء وفي بيت عماد، يسأل أحد الضيوف: شو خي عماد عشب الحديقة طويل كتير، وين عامل الحديقة؟؟ فيرد عماد: طردته، أملا بأن أخي سمعان سيقوم بالمهمة، ولكنه “تنبل” (وتعني بالسوري المحلي حمار وكسلان) في لقاء آخر على مائدة أكل، يمزح عماد مستهزءا أمام الضيوف من سمعان: خي سمعان ما بيعرف ياكل القريديس
Lobsters،
قلتلو روح جيب جاكوش من الكاراج وكسرو! مرة وأمام الضيوف أيضا قال مازحا: اللي بشوف خي سمعان بفكرو مكسيكي تسلل لتوه عبر الحدود! وقس على ذلك!!
……..
عماد استقبل أخاه سمعان وعائلته في المطار. استأجر لهم شقة واشترى سيارة، وكان مسؤولا عن نفقاتهم حتى تمكنت ابنتا سمعان من الإلمام ببعض اللغة والإنخراط في العمل! لم يقصر عماد يوما بحق أخيه، لكنه لم يحترم يوما مشاعره! أعطاه من جيبه وبخل عليه من نفسه…. والكرم الحقيقي عندما تعطي من نفسك وبدون غايات… في كتابي القادم “الآن والأنا” أتطرق وبشيء من التفصيل إلى هذا النوع من العلاقات.
بعض حالات الكرم، وخصوصا المبالغ فيه، تلجأ إليه “الأنا” حبا بالظهور والتعالي على الآخر الذي تمنحه كرمها المزيف! “الأنا” المفلسة تحاول بلا هوادة اثبات ذاتها، على حساب أي شخص ومهما كان ذلك الحساب كبيرا!
….
طالما تغنى الناس ببيت الشعر الذي يقول: إن أنت أكرمت الكريم ملكته…..وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا…
لسبب خفي، ربما باللاوعي عندي، لم أشعر يوما بالارتياح لهذا البيت رغم ماقد يُظهره من حقائق وجمال…
لكنني لاحقا اكتشفت أنه من الخطأ بمكان أن تعطي انسانا رغبة في أن تملكه، الأمر الذي لو حصل سيحوّل كل إنسان إلى لئيم… من حقك كانسان أن ترفض أن تكون ملكا لأحد، بغض النظر عما فعل هذا الـ “أحد” من جميل الفعل لك! قد تكون مدينا بحياتك له، لكن لا يمكن أن تكون مدينا له بكرامتك ولا بعزّة نفسك…
…..
أي عطاء يمنحه الآخر لي، ومهما كنتُ بحاجة إليه، لا يمكن أن يعطي هذا الآخر الحق في أن يملكني! صحيح، أنا مدينة له بالشكر… ومدينة له بالإعتراف بالجميل، وربّما مدينة له بردّ الجميل إن استطعت إلى ذلك سبيلا،
لكن حاجتي إليه وتلبيته السخية لحاجتي لا يعطيه الحق إطلاقا أن يمتلكني، ناهيك عن أن يشبع “أناه” الجائعة على حساب كرامتي!!!
…..
لنفس السبب طالما كرهت المثل القائل: اتقِ شر من أحسنت إليه! عندما تُحسن لا تتوقع شيئا بالمقابل، وإلا فالعطاء ليس إحسانا، لكنه مجرد محاولة لملئ قربة “الأنا” المثقوبة! فعندما تتحكم الـ “أنا” بصاحبها قد تقنعه أن يمنح سرواله لغيره، ليس إحسانا وإنما استعلاءا ومحاولة فاشلة لنفش ريش تلك الـ “أنا”!
……..
يتطلب الأمر وعيا وثقافة وخبرة كي تميز الكريم الحقيقي من الكريم المزيّف المحكوم بـ “أناه”، والذي يتكرم رياءا ومفاخرة وليس رغبة بالمساعدة! في الحالة الاولى الكريم لا يجرح مشاعرك ولا ينتظر منك حتى كلمة شكر، وإن كنت مدينا بها! بينما في الحالة الثانية لا تأتي الهدية إلا مربوطة بخيط ـ على حد التعبير الانكليزي
(Gifts with strings attached)،
والمعنى أن يربط الشخص هديته بخيط كي يسحبها متى أراد، وربما كي يسحب معها كرامتك وعزة نفسك أملا في أن ينفش “أناه” المغرورة على حسابك!!!
…….
لا شك أن هناك اناسا ينكرون الجميل وفي حقيقة الأمر لا يستحقونه، ولكن الكريم الحقيقي لا يعطيك مقابل أن تعترف بجميله، ناهيك عن أن تردّه. تذكر: قد تكون مدينا لشخص بحياتك لكنك ـ وتحت أي ظرف ـ لست مدينا لأحد بكرامتك! أكثر المواقف التي تُخجلني هي المواقف التي يحاول عندها شخص أن يشكرني على جميل قدمته له! بسرعة البرق أحاول أن أغيّر الموضوع، وخصوصا في حضور اناس آخرين. ليس هذا وحسب، أجد صعوبة بالغة في حضور أي لقاء سألتقي خلاله باناس قدمت لهم مساعدة ما، لأنني أخجل من خجلهم، وأخاف أن يحسوا بأنهم أقل شأنا مني ! لا أريد لأحد أن يهبط بنفسه إلى مستوى الإحساس بالدونية مقابل شخص ساعدهم!
….
جميل أن نعترف بالجميل، والأجمل أن نحاول رده، لكن يجب أن يتذكر العاطي والآخذ، أن العلاقات برمّتها هي التقاء حاجات، وكل منا يحتاج في وقت ما إلى غيره. ليست الحاجة إلى الغير مذلة، وليس العطاء مبررا لأن تذل غيرك!
…..
الفيلسوف اليهودي
Maimonides،
وصف ثمانية مستويات للعطاء، تمتد من أسفلها وهو المستوى الذي يُجبَر عنده الشخص على العطاء، أو لا يعطي إلا عندما يُسأل، إلى أعلاها وهو المستوى الذي يعطي الشخص عنده لآخر لا يعرفه، والذي أخذ لا يعرف من أعطاه. أما أنا فأقول أخفض مستويات العطاء، عندما يعطي شخص بغية أن يذل غيره وينفش على حسابه ريش “أناه”! ولنا في عماد مثال حيّ!!!!!
…….
طيّبت خاطر سمعان وشجعته على أن يتجاوز سقم أخيه النفسي، ويركز على الجانب المضيء لحياته في أمريكا، ألا وهو أن المستقبل أفضل لعائلته وخصوصا لابنتيه!

About وفاء سلطان

طبيبة نفس وكاتبة سورية
This entry was posted in الأدب والفن, دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.