قيامة المسيح بين الأسطورة الإيمانية والواقعية التاريخية حوارات في اللاهوت المسيحي 17

قيامة يسوع الناصري بالنسبة للإيمان المسيحي تعتبر أحد أهم أعمدته الأساسية , بل هي المركز بالنسبة لذلك الإيمان
والمقصود من عبارة(قيامة المسيح) باختصار هو :
عودة يسوع الناصري الى الحياة بعد أن تجرع كأس الموت على الصليب
كل المسيحيين يؤمنون أن يسوع الناصري مات على الصليب, ودفن, وبعد ثلاث أيام قام من الموت ,والتقى بتلاميذه, قبل
أن يرتفع للسماء ويجلس على يمين العظمة مع الله في السماء!

ورغم قوة هذا المعتقد ورسوخه في الوجدان المسيحي, لكنه يبقى مجرد (حقيقة إيمانية) تخص المؤمنين المسيحيين وحدهم, وليست حقيقة (تاريخية) تلزم بقية
البشر من غير المسيحيين, بالتصديق أو الاعتقاد بها, فكل دين له حقائقه الإيمانية الملزمة لأتباعه فقط, والتي ربما تعتبر لدى اتباع الاديان الاخرى مجرد أسطورة!

ونحن هنا لانريد مناقشة قيامة المسيح ,من حيث كونها عقيدة إيمانية, لأن من حق الإنسان الاعتقاد بما يشاء ومن حقه على الآخرين احترام خياراته الإيمانية,
وبنفس الوقت ليس من حق اي انسان فرض حقائقه الإيمانية على الآخرين وحملهم على التصديق بها وكأنها واقع تاريخي راسخ اليقين.
تناولنا لقضية قيامة المسيح سيكون من ناحية الطرح التاريخي, وسنتعامل مع القصة على اساس انها (خبر) تاريخي قابل للبحث والنقاش والنظر للموضوع من
مختلف الزوايا ومراجعة كل الاحتمالات الممكنة.

في البداية نحتاج إلى مقدمة, لغرض إعادة التذكير على أن المصادر الرئيسية والوحيدة لقصة قيامة المسيح هي مدونات المسيحيين أنفسهم, والتي اعتبرت
فيما بعد, كتابا مقدسا حمل اسم (العهد الجديد)
ورغم أهمية سرديات العهد الجديد حول الحوادث التاريخية, لكنه لا يمكن اعتباره مصدرا تاريخيا مستقلا وموثوقا, لأن المادة التاريخية في هذا الكتاب,
لا تعدو كونها نوع من أنواع (الأدب التاريخي) المدون من قبل أشخاص مؤمنين بعقيدة معينة, بهدف اظهار حقانية تلك العقيدة, وأنها تمثل الإيمان القويم الوحيد, مع (أسطرة) الشخوص الذي يرتكز عليها ذلك الإيمان والتي تحتل مكانة رمزية فيه.
لذلك لا يمكن لأي باحث في التاريخ الاعتماد على السرديات التاريخية التي (ينفرد) بذكرها العهد الجديد من أجل استخلاص حقائق تاريخية لا تقبل الشك
والتأويل والنقاش, والسبب بسيط وواضح, لان القصة التاريخية في العهد الجديد هي من طراز الاخبار( البعدية!)
والخبر (البعدي) هو ذلك النوع من الأخبار, التي تم تدوينها لاحقا (بعد) وقوع الحدث, وبعد أن يكون الخبر قد خضع إلى إعادة صياغة وتشكيل لسيناريو
الحدث التاريخي (بعد) فترة من حدوثه, وهذه ظاهرة موجودة في كل المعتقدات والايدلوجيات, حيث يتم إعادة تركيب أجزاء القصة التاريخية للخروج بصورة تتطابق مع ايمان وعقيدة كتبة النص!

وهذا الأمر ينطبق تماما على العهد الجديد, الذي تمت كتابة نصوصه على أيدي مؤمنين مسيحيين, بعد وقوع الحدث التاريخي بأزمنة مختلفة أقلها عشر سنين,
مع ملاحظة ظاهرة أخرى مهمة, وهي محاولة تطويع النصوص, وخصوصا تلك التي تطرقت الى اخبار الصلب, إلى عملية مواءمة متعسفة مع بعض الفقرات المقتطعة من العهد القديم, للخروج بسيناريو مفصل على مقياس يسوع الناصري! وإظهار مجريات الأحداث وكأنها مسار لقدر محتوم تنبأت به
الكتب القديمة!

وبذلك تجاوز المؤمنون المسيحيون الصدمة الإيمانية الكبرى, بانتهاء مسيرة الدعوة الاصلاحية وصاحبها يسوع بشكل سريع وصادم ونهاية مأساوية مؤلمة, ونجحوا
في رسم معالم (جزء ثاني) للقصة ,تكون أحداثه اهم واطول من جزئها الأول, حيث سيعود البطل المفقود ويحقق انتصاره الأسطوري, بعد أن يقهر الموت ,ويجلب الأمل من جديد لاتباعه المصدومين ويستأصل اليأس من نفوسهم!

ولو تغاضينا عن حقيقة أن معظم أجزاء العهد الجديد ( عدا بعض رسائل بولس) كتبها أشخاص مجهولون, وتم فيما بعد بحدود منتصف القرن الثاني, نسبتها إلى
أسماء معروفة ولها وزن في التاريخ المسيحي, مثل (يوحنا ومتى وبطرس.. الخ) لان هذا ليس موضوع المقال, سنضطر الى التعامل مع الأناجيل الأربعة التي تعترف الكنيسة بقانونيتها, لأن رواية القيام من الموت بعد الصلب لم ترد في أي مصدر تاريخي آخر مستقل!, وخصوصا تلك المصادر
التاريخية القديمة والقريبة من زمن الحدث والتي ورد فيها ذكر يسوع الناصري مثل مدونات (تاسيتوس) و(بليني الصغير) و (يوسفيوس) بعد اعادة تنقيح كتابه وإهمال الاضافات التي دسها النساخ المسيحيين فيه!

بالنسبة للأناجيل القانونية فان اثنين منها ( إنجيلي لوقا ومرقس) لم يكن الشخصان المنسوبة إليهما, شهودا على أحداث القصة ,وإنما كانوا ينقلون ما
ورد إليهم من أخبار, اما (متى ويوحنا) مع افتراض أنهما الكتبة الحقيقيين للانجيلين المسمين باسمائهما, فإنهما لم يكونا شهودا حاضرين في كل مجريات الأحداث, فمثلا البشير (متى) لم يكن حاضرا في واقعة الصلب, وايضا لم يكن كلاهما حاضرين في واقعة دفن جثمان المسيح بعد الصلب!

تعتبر رسائل (شاؤل/بولس) هي المصادر الاولى لذكر حادثة قيامة المسيح,ورغم ان (شاؤول) لم يكن وقت الحدث في اورشليم ولم يلتق أبدا بيسوع الناصري,
الا اننا سنجد هذا الرجل من أشد المتحمسين لفكرة قيامة المسيح بعد موته, إلى الحد الذي اعتبر فيه أن التشكيك بهذه الفكرة, سيؤدي إلى بطلان الإيمان وقيمة الكرازة اليه !
(وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَسِيحُ قَدْ قَامَ، فَبَاطِلَةٌ كِرَازَتُنَا وَبَاطِلٌ أَيْضًا إِيمَانُكُمْ) كورنثوس الاولى

والأمر اللافت في حماسة (بولس) لهذه الفكرة اننا نجده ,في نفس المصدر السابق, يعتمد على مصداقية ووثوقية حادثة قيامة يسوع الناصري, لأنها مذكورة
في الكتب!!

(وَأَنَّهُ دُفِنَ، وَأَنَّهُ قَامَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ حَسَبَ الْكُتُبِ) كورنثوس الاولى 15/4

فهذا الرجل يعتبر قيامة المسيح أمرا واقعا لا يقبل التشكيك, لانه يعتقد ان (الكتب) أي- نصوص العهد القديم- قد أشارت وتنبأت بهذا الحدث, لذلك يجب
تطويع وتفصيل الأدلة واختراع اثباتات لتكون مفصلة على مقاس يعكس ترسيخ هذا الخبر على شكل حقيقة وعقيدة, حتى لو اضطر السيد بولس إلى فبركة قصص وتلفيق دلائل مزورة!, كما حصل حين اخترع لنا قصة مشاهدة 500 انسان( مجهول) ليسوع بعد قيامته والتي انفرد بها بولس وحده!
ولم يذكرها المعاصرون ليسوع, وتجنبها غالبية الذين كتبوا النصوص الأخرى لاحقا لأنهم- حسب الظاهر- ادركوا ان السيد بولس قد (طوخها!!) نوعا ما!! خصوصا
إذا علمنا أن كل أتباع يسوع في- تلك الفترة- لم يتجاوزوا 120 انسان!

إن منهجية( بولس) واسلوبه في اختلاق الأحداث أو تضخيمها وتطويع الاخبار وإعادة صياغة السيناريوهات لخدمة أفكاره الإيمانية أمر واضح لكل باحث, والسيد
بولس نفسه لا ينكر هذا التوجه وهو يفتخر بكونه صاحب مبدأ ( الكذب المقدس!!)

(فانه إن كان صدق الله قد ازداد بكذبي لمجده فلماذا أدان أنا بعد كخاطئ!!!) رسالة رومية 3 /7

ان (شاؤول/بولس) كان من اشد المتحمسين لفكرة ان الانسان يتبرر بالايمان فقط, وأن الإيمان وحده هو طريق الفوز بالحياة الأبدية, بغض النظر عن أعمال
وسلوكيات الإنسان!
ولذا لا غضاضة في توظيف أي وسيلة ممكنة من أجل خدمة الإيمان المسيحي ونشره!

(اذًا نَحْسِبُ أَنَّ الإِنْسَانَ يَتَبَرَّرُ بِالإِيمَانِ بِدُونِ أَعْمَالِ النَّامُوسِ) رومية 28/3

وقد اكتسب هذا الرجل المتحمس لفكرة قيامة المسيح بعد موته, لاحقا, مرتبة مقدسة في الوجدان المسيحي لا تضاهيها إلا قدسية يسوع نفسه , وحصل على لقب(
رسول الأمم) لأنه ,وبعد نجاحه في ترسيخ فكرة قيامة المسيح من الموت , ادعى أن المسيح ظهر له ! والتقى به! وحمله شرف توصيل رسالته!! ورعاية المؤمنين !

وبعد ان عرفنا ان المصدر الاول ,والمتقدم زمنيا, لفكرة قيامة المسيح هو رسائل(بولس) والذي لم يكن اصلا من الشهود على الحدث وتفاصيله, يتضح لنا
ان حادثة قيامة المسيح من الموت لم يذكرها من شهود العيان سوى شخصين فقط!!

وهذان الرجلان (يوحنا و متى) ايضا لم يشهدا كل مجريات الاحداث وانما أجزاء منها فقط!
وان نسبة الأناجيل ,التي وردت فيها شهادتهما , لهما, هي اصلا مدار شك ورفض من قبل الكثيرين من خبراء النقد النصي !

بعد هذه المقدمة الضرورية, سندخل في مناقشة تفاصيل الحدث المزعوم, وخصوصا, الركيزتين الأساسيتين التي يستند إليها اللاهوتيون المسيحيون لإثبات
صدقية وقوع قيامة المسيح وهما : القبر الفارغ ومشاهدة المسيح بعد حادثة الصلب

وستتم مناقشة كل ادعاء منهما في مقال مستقل, مع التركيز على التحقق والتثبت من ادعاء موت يسوع على الصليب
وهل هذا الخبر هو حقيقة تاريخية لا تقبل الجدل؟ ام انه مجرد خبر تاريخي يخضع, كغيره, لموازين الفحص والتدقيق, من أجل التأكد هل أن موت يسوع الناصري
بعد تعليقه على الصليب هو أمر مقطوع بصحته والجزم بحدوثه لكي نرتب وفقا لذلك اعتبار مشاهدته بعد حادثة الصلب على اساس انه ( قيام) من الموت؟
أم ان الموضوع قابل لطرح احتمالات أخرى لا تتحدد بالسيناريو الذي أخرجه لنا المؤمنون المسيحيون؟!

وللحديث صلة

د. جعفر الحكيم

About جعفر الجكيم

جعفر الجكيم 45 عام طبيب عراقي مقيم في الولايات المتحدة نيويورك- ضاحية مانهاتن ناشط في مجال المجتمع المدني وحقوق الانسان باحث في مجال مقارنة الاديان ممثل لمنظمات مجتمع مدني عراقية في الامم المتحدة بنيويورك منذ 2007 ولا زال رئيس تحرير جريدة المهاجر - ولاية اريزونا- مدينة فينكس للفترة 2005 من 2011الى لي مشاركات عديدة في برامج حوارية حول مقارنة الاديان في قناة الكرمة ارجو التفضل بقبول جزيل شكري ووافر احترامي د.جعفر الحكيم
This entry was posted in فكر حر. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.