دليلك إلى حياة مقدّسة (الفصل التاسع)

نعم، يرمي الدفق العفوي للحياة ملايين من حبيبات الرمل في أحذيتنا، التي لو سمحنا
لها أن تبقى هناك لنكّدت علينا الرحلة باتجاه القمّة…
جميل أن تنظف حذائك منها بين الحين والآخر،
والأجمل أن تكون كالمحار!
هل تعرف ماذا يفعل المحار عندما يلقي الدفق المائي بحبة رمل في جوفه؟
يلتقط المحار حبة الرمل بامتنان، رغم ماقد تسببه من مشاكل لأحشائه الداخلية،
وبدلا من أن يطرحها خارجا، ينسج حولها ذلك البيت الصدفي الغارق في جماله،
ليحولها إلى حبة لؤلؤ!
يعتبر اللؤلؤ من أجمل وأغلى الأحجار الكريمة في العالم…
ليس هذا وحسب، بل غدت طريقة صناعة المحار له درسا يقتدي به هؤلاء المفعمين بالإمتنان للحياة،
الذين يرون في كل ما يرميه دفقها الطبيعي (جميله وقبيحه) فرصة ليشكروا وليعبروا
عن امتنانهم!
الدفق العفوي للحياة يشتغل بطريقة لغزية للغاية…
يرمي في أجوافنا بعضا من حبيبات الرمل، ليرى إن كنا سنسمح لها أن تستنزفنا، أو كنا كالمحار قادرين على أن
نعيد حبة الرمل إليه لؤلؤة ولا أجمل، كعربون على امتناننا لوجودنا فيه!
….
لا أعرف إن كانت منحة كونيّة أو صفة اكتسبتها عبر حياتي، لأنني ومنذ شبابي المبكّر أشعر بأنني مدينة
لكل حدث في حياتي، ولكل شخص مرّ فيها…
لم أتذمر مرّة ولم أشكو، وأرى في التذمر وفي الشكوى عادة تُسيء إٍلى علاقتك بالكون!
حتى الأعشاب الضارة التي تنمو في حديقتي أرى فيها فرصة لأروّض نفسي أن أقبل
ما لا أريد أن أقبله، وأن أتعايش مع ماكنت أظنه ضارا بالمطلق.
أرى فيها فرصة لأفكر، أليس لها الحق أن تتباهى بوجودها كما تفعل الأشعاب النافعة التي تنمو بجانبها؟؟؟
من أعطانا الحق كي نصفها بالضارة؟
أليس في انحيازنا لغيرها من النباتات انتقاصا من حقها في الحياة؟
أشعر بامتناني لكي ما يقذفه الدفق العفوي للحياة في طريقي، أحببته أم كرهته،
لأنني كالمحار أرى فيه فرصة لتصنيع الآلئ، فينبثق مما ظننته حبيبة رمل لؤلؤٌ
يرصف لي درب الحياة،
وكلما أحببتَ الحياة كلما سهّلت لك الدرب إليها!
……
على مدى أربعين عاما، لم أنس يوما قصة حدثت معي في أول عام من دراستي الجامعية.
دعتني صديقة كانت تسكن معي بنفس المبنى الجامعي سرا إلى غرفتها لتطرح
معي موضوعا في غاية الأهمية!
قادني فضولي وقلقي إلى غرفتها وأنا أتوقع أنها ستطرح قضية شائكة جدا، ربما
قضية تحرير فلسطين، أو إعادة النظر في اتفاقية سايكس بيكو!!!
قالت هيفاء: وفاء لديك عادة سيئة للغاية، وقد تظهر لمن لا يعرفك أنك تعانين من شح وفقر مدقع!
كاد فكي السفلي يرتطم بالأرض: ماهي؟؟؟
ـ كلما رأيتِ شيئا جديدا تنبهرين، وتعبرين عن اعجابك الشديد به وكأنها المرة الأولى التي ترينه فيها!
بعد أربعة عقود من حياتي اكتشفت أنني مازلت أمارس تلك العادة، ولكنني اكتشفت أمرا أكثر أهمية،
ألا وهو أنها أجمل عاداتي!
يُقال: الحياة موقف!
وموقفي من الحياة: الإمتنان لدقائق تفاصيلها….
……….
منذ أكثر من خمسة عشر عاما، دعوت شلة من أصدقائي إلى طعام الغداء في بيتي.
العادة الدارجة في أمريكا عندما يُدعى شخص على مائدة يجلب معه هدية رمزية لصاحبة البيت،
كأن تكون زجاجة نبيذ، أو قالب حلوى أو باقة ورد أو ماشابه.
بعد أن انفضّ الجمع، ركضت ابنتي يدفعها جنون المراهقة وراحت تنبش الهدايا من علبها
إلى أن سمعتها تصيح: ما أغبى صاحب هذه الهدية!!! منفضة سجائر؟؟؟؟ لا أحد في بيتنا يدخن!!
طاردتها بحذائي وأنا أصرخ في وجهها: بل تصرفك هو الغبي، يجب أن نكون مدينين لوجود الأصدقاء
في حياتنا، ولهدايهم مهما كانت بسيطة!
لقنتها درسا مازالت تذكّرني به حتى اليوم…
سقطت تلك الحادثة مع الزمن من الذاكرة الحاضرة، حتى قبل شهرين كنت أتبضع في أحد الأسواق، وإذ بي
وجها لوجه مع صديقة أمريكية كانت جارتي في بيتي القديم، انتقلت إلى بيت آخر ثم انتقلتُ أنا وضاع
التواصل بيننا.
عندما التقت عيوننا بالصدفة، شهقتُ وشهقتْ وتعانقنا لدقائق ودموعنا تنهمر مدرارا…
ثم راحت تقول: أرسلُ لك كل يوم مع الأثير صلاة (الدعاء في الانكليزي يُسمى صلاة)، هل تصلك؟؟
أقول فيها: God bless Wafa، ليبارك الله وفاء!
فأرد مبتسمة: طبعا، ولذلك أنا مباركة في دقائق الأمور من حياتي…
ثم أتابع: ولكن ما الذي يذكّرك بي كل يوم لترسلي لي هذه الصلاة؟
فترد: منفضة السجائر التي قدمها لك صديق كهدية، ولأنه لا أحد يدخن في بيتك أعطيتني إياها!
نعم، لأنني عبّرت عن امتناني لوجود هذا الصديق في حياتي، وعن امتناني لهديته المتواضعة،
ظل الكون يرسل لي صلاة تخصني كل يوم،
وظلت تلك الصلاة تفعل فعلها وتباركني في كل خطوة أخطوها….
…………
آكل تفاحة كل صباح، أقضمها في كل مرّة بنفس اللذة والإمتنان التي يقضمها بها جائع لم يذقها منذ سنين.
امتلاكي لتفاحة كل يوم ليس حدثا عاديا، ولا أتعامل معه على أساس أنه حدث عادي…
بل هو هدية “فوق العادة” أتلقفها بنفس البهجة التي يتلقف بها صياد لؤلؤة نادرة وثمينة سقطت في شبكته!
هي هدية يخصني بها الكون كل يوم، يخصني بها كعربون امتنان لامتناني!
…..
كلّما راقبت شروقا للشمس أو غروبا أقف باجلال وانصات أمامه، وكأنني اراقبه للمرة الأولى في حياتي…
أشهق أمام كل برعم جديد في حديقتي…
أنبهر أمام جمال فراشة راقبتها للمرة الألف تغزو أزهاري…
أفتح ثلاجتي وقبل أن ألتقط منها أي شيء، أمعن النظر في باقة فجل أو بصل أو جزر وأحني
رأسي عربون امتنان لوجودها في تلك الثلاجة!
أدير صنبور الماء، وأنظر إلى سيله مبتهجة كمدمن ينظر إلى كأس من النبيذ المعتّق!
أراقب صدر زوجي يعلو ويهبط وهو نائم، فأمتن لأنه مازال يتنفس ومازال حيا في حياتي.
حتى التنفس لا أراه عاديا بقدر ما أنظر إليه كمعجزة يسحرني تواترها المنتظم بدقة،
لا تنتظر حتى يلفظ عزيز عليك آخر نفس له، كي تدرك أهميّة ذلك التواتر!
…………………
لا يوجد شيء جميل في حياتي مهما كان روتينيا، إلا وأعتبره إبداعا كونيّا يستحق شهقتي!
طالما شهقت وأنا أراقب أمواج البحر في مد وحسر…
طالما شهقت وأنا أتلذذ بصحن التبولة التي تتحفني به صديقتي مطيعة…
طالما شهقت وأنا أرتدي جوربا من الصوف حاكته لي سعاد…
طالما شهقت وأنا أطبع قبلة على جبين حفيدي آدم…
طالما شهقت وأنا أرشف فنجان قهوتي الصباحي…
طالما شهقت وأنا أمرّ بأناملي على ظهر قطتي سايكو…
تدهشني التفاصيل الدقيقة للحياة، والتي قد تبدو لغيري روتينا مملا،
ولأن الكون يراني دائما وأبدا مبهورة كطفل دخل للمرة الأولى محلا لبيع الحلوى، صارت حياتي ذلك المحل،
وصار كل شيء حولي حلوا كالعسل، بما في ذلك قهوتي المُرّة!
…….
ـ لا يا صديقي، أنا لست برجوازية، لكنني موفورة النعمة!!!
والوفرة في كبائر الأشياء هي ردة فعل الكون لامتنانك على صغائرها!
هذا قانون طبيعي، وليست برجوازية قتلتُ نفسي لأصلها!!!
كان الوصول إلى الوفرة بالنسبة لي أمرا في غاية السهولة، لم يتطلب سوى قليلا من الانبهار وكثيرا من الامتنان!
……..
يقول الفيلسوف الروحاني الألماني
Meister Echart،
الذي عاش في القرن الثاني عشر الميلادي:
If the only prayer you ever say in your entire life is Thank you, it will be enough!
(إذا كانت عبارة “شكرا لك” هي الصلاة الوحيدة التي لم تقل غيرها في حياتك، ثق أنها تكفي!)
أمشي في الحياة وبامكان كل من يقابلني أن يستقرأ على جبهتي عبارة “شكرا لك”، لأن الشكر ـ في نظري ـ
هو أرقى أنواع التفكير وأقصر الطرق وأفسحها إلى السعادة!
….
السعادة ليست قصرا تبنيه، أو مالا تجنيه، أو ثوبا تقتنيه، أو بلدا تسافر إليه!
السعادة أن تعيش اللحظة بعمقها، وتكون ممنونا لذلك العمق….
أنا لست ممنونة لأنني سعيدة، ولكنني سعيدة لأنني ممنونة!
كنت ممنونة يوم كنت أتخبط كطالبة في بداية حياتي الجامعية لأبني مستقبلا لي،
واليوم لست أقل أو أكثر امتنانا!
الامتنان موقف وطريقة حياة، وليس مجرد شعور تحاول أن تخفيه، كي
لا يظن الناس في تلك الثقافة الصحراوية العاقر أنك تعيش شحا وفقرا مدقعا عندما
تعبر عن انبهارك بكل شيء يرميه الدفق العفوي للحياة في طريقك!
….
البرت انشتاين، يقول:
There are only two ways to live your life. One is as though nothing is a miracle. The other is as though everything is a miracle!
(يوجد طريقتان لتعيش حياتك. الأولى: لا شيء معجزة، والثانية: كل شيء معجزة)
وأنا من الذين يرون في كل شيء معجزة، بما في ذلك تلك الحبيبة من الرمل التي يحوّلها المحار إلى لؤلؤة…
وكذلك، ربطة البصل في ثلاجتي، وتفاحة في يدي، وجورب من الصوف يُدفئ قدمي، وقط يخرمش أناملي،
وماء ينساب من صنبور مطبخي، وتبولة في صحني، وفنجان قهوة ينعش منافسي!
ليس هذا وحسب، بل أرى معجزة حتى في الأعشاب الـ “ضارة” في حديقتي، لأنها ورغم كل المبيدات
التي تحاول قتلها، مازالت تنمو وتدافع
عن حقها بالحياة كما تملك الأعشاب النافعة ذلك الحق!
…………..
يقول الفيلسوف الإغريقي Epictetus:
He is a wise man who does not grieve for the things which he has not, but rejoices for those which he has.
(حكيم ذلك الرجل الذي لا يحزن على ماينقصه، ولكنه يفرح بما يملكه)
لم أذرف يوما دمعة على شيء ينقصني، لأنني دائما مشغولة بالإحتفال باللحظة التي أعيشها
بكل ما تملكه ومالا تملكه!
المتذمرون لا يرون في الورود إلا أشواكها، بينما المفعمون بالشكر يقدّرون جمالها
وعطرها الآخاذ…
لا يوجد لحظة في الحياة إلاّ وتستحق أن نعيشها بعمق وامتنان،
فالحياة لا تعطيك أكثر مالم تشكرها من أجل الأقل!
…………
لو لم أكن كذلك، لكانت حياتي مجرد شح وخراب،
لكنني أثرى امرأة في العالم…..
أليس الثري هو من يأكل تفاحة وينحني للشروق والغروب كل يوم بامتنان؟؟؟؟

About وفاء سلطان

طبيبة نفس وكاتبة سورية
This entry was posted in فكر حر. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.