هل فرضت الشريعة الإسلامية نظاماً سياسياً يمكن اعتباره “النظام السياسي الإسلامي”؟

هذا المقال بقلم أحمد عبد ربه، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع “سي ان ان” بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية،

الحقيقة أن إجابة هذا السؤال مهمة لأنه إذا كان من المسلّم به بين الكثير من المسلمين أن الإسلام “دين ودولة” وأن الإسلام ينظم كل مناحي الحياة، فلابد أنه ينظم الحياة السياسية أيضا لأن الأخيرة لا يمكن فصلها أبدا عن شؤون الحياة العامة. إذا تركنا الخلاف بين العلماء جانبا وقمنا بمراجعة تاريخ “الممارسة الإسلامية” منذ أحداث الفتنة الكبرى وحتى انهيار الخلافة العثمانية، سنجد أن الممارسة الإسلامية السياسية قد اختلفت عبر العصور بل وحتى في نفس العصر بين خلفاء المسلمين، وأن تطبيق الشريعة الإسلامية في الشأن السياسي والعام قد تأثر بشدة بطبيعة الصراعات المحلية والإقليمية التي كانت قائمة في كل عصر، فضلا قطعا عن أن العنصر البشرى بكل ما فيه من مواطن ضعف إنسانية أمام شهوات السيطرة والقبلية والقوة والثروة والنفوذ والتوسعات كان لها تأثير قوى ومباشر علي طريقة تطبيق الشريعة الإسلامية في هذه الدول وهذه العصور. ما أعطي لهذه الممارسات طابعا إسلاميا لم يكن سوى أن من طبقها كانوا “مسلمين”، لكن عبر أكثر من ثلاثة عشر قرنا من الممارسة الإسلامية لا يمكن أن نجد أي ملمح ثابت لأي تطبيقات سياسية للشريعة الإسلامية!

***

في العمل الضخم الذي صدر عن دار نشر أوكسفورد فيما يقرب من ٧٠٠ صفحة وتناول العلاقة بين الإسلام والسياسة -وحرره أستاذي العلوم السياسية المرموقين المصري الدكتور عماد الدين شاهين والأمريكي الدكتور جون إسبوسيتو- والذي جاء متناولا المفاهيم السياسية التى ارتبطت بالإسلام فكرا وتطبيقا، عارجا على فكر أهم المنظرين الإسلاميين في العصر الحديث فضلا عن التجارب السياسية الإسلامية سواء ارتبطت بالدول التي طبقت الشريعة أو بالأحزاب والحركات الإسلامية السلمى منها والعنيف، والذي جعلته مقررا علي طلابي الأمريكان العام الماضي، سألتهم في نهاية الفصل الدراسى أن يتفقوا على أهم ثلاثة ملاحظات علمية على التجربة السياسية الإسلامية، بعد دراسة ٤١ فصلا هي عدد فصول العمل البحثي الضخم، اتفق الطلاب على الملاحظات الثلاث التالية:

الملاحظة الأولى: أن التجربة السياسية الإسلامية ينطبق عليها ما ينطبق على باقي التجارب السياسية العالمية التي ظهرت متوازية مع التجربة الإسلامية كل في عصرها! فالتجربة السياسية لدول الخلافة حركتها ما حرك باقي إمبراطوريات هذه العصور الشرقية منها والغربية، حيث الصراع على السلطة وإخضاع البشر للسيطرة والرغبة في التوسع. بعبارة أخرى فالتجربة السياسية الإسلامية كانت بهذا المعني تجربة بشرية تخضع لمعادلات السياسة والقوة لا لحسابات الفقه والشريعة حتي لو ادعت غير ذلك اسما للحصول على شرعية الحكم والقدرة علي استقطاب وتعبئة البشر.

الملاحظة الثانية: أن تجربة الحكم الإسلامي كانت “متعولمة” وهذا متفق مع طبيعة الدعوة الإسلامية نفسها، بمعنى أنها حاولت إحداث الكثير من المواءمات بحسب بيئات الحكم وطبيعة الثقافات والعادات والتقاليد، فالدولة الإسلامية المغولية في الهند حكمت بشكل مختلف عن الدولة الصفوية فى إيران والتي اختلفت بدورها عن الدولة الفاطمية أو الأيوبية أو العثمانية وهكذا. إن هذا الاختلاف كان محوريا ومقصودا لا عفويا من أجل السيطرة على البشر والاستجابة لطبيعة بيئاتهم المحلية رغم التقارب أو التوازي الزمنى، أما إذا ما أدخلنا عامل الزمن في الاعتبار فإن هذه الاختلافات في استراتيجيات وسياسات الحكم كانت أكبر استجابة لطبيعة كل مرحلة زمنية.

أما الملاحظة الثالثة والأخيرة: أن الشريعة الإسلامية يمكن اعتبارها “مرجعا قيميا أخلاقيا” لما يجب أن تكون عليه الممارسات الحياتية سواء على مستوى العلاقات الفردية أو الجماعية أو حتى علي مستوى العلاقات بين الدول، لكن لا يمكن أبدا استنباط أي نظام سياسي محدد الملامح سواء على مستوى المؤسسات أو الهياكل أو القوانين أو اللوائح لتنظيم هذه العلاقات السياسية سواء داخل الدولة (الإمبراطورية) أو بينها وبين غيرها من الدول.

لفت نظرى المقالة الإلكترونية المهمة التي كتبها الأستاذ الباحث “أحمد تايلور” ونشرها موقع “إضاءات” مؤخرا بعنوان “بين العوا وغليون: هل فضل الإسلام النظام الرئاسى فى الحكم؟” والذي تناول بيان الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الذي أدعى أن تعديلات أردوغان الدستورية المقترحة هي النظام السياسي الذي يتفق مع “تعاليم الإسلام”، حيث أوضح المقال رأي اثنين من كبار المفكرين الإسلاميين، السوري برهان غليون والمصري محمد سليم العوا، بحيث أن رأى المفكرين الهامين يكاد يقترب من رأى طلابى بعد دراسة تلك التجربة السياسية الإسلامية الثرية، بحيث اتفق العوا مع غليون علي أن (وهنا أقتبس من المقال المذكور):

“الإسلام لم يأت بنظام حكم معين المعالم محدد التفاصيل، لكن الفقه الإسلامى بوصفه، تعبيرا بشريا عن فهم النص القرآنى، حفل بمسائل نظم الحكم”.

***

هذه النتيجة الهامة التى يتوصل لها بسهولة كل من قرأ تاريخ الممارسات السياسية الإسلامية خلال القرون الماضية من شأنها أن تحدث تحولا على ثلاث مستويات فكرية وسياسية:

المستوى الأول هو في إزاحة ذلك الحمل الثقيل الذي يقع على عاتق المفكرين الإسلاميين في محاولة لي عنق الحقائق والقراءة المجتزئة السطحية أحيانا للتاريخ الإسلامي للدفاع عن “الشبهات” التي تحوم حول الإسلام! فلا حاجة للدفاع واللعثمة والارتباك والذهاب يمينا ويسارا والتبريرات المضحكة البليدة لتبرير القتل والسبي والاحتلال والإخضاع والتفرقة وغيرها من الوسائل والأدوات التي استخدمتها الكثير من الدول الإسلامية في ممارستها السياسية لأن ذلك لم يكن قاصرا عليها، فقد كان هذا ببساطة من معطيات العصر وكل هذه الموبقات كما ارتكبت تحت راية الإسلام والهلال فقد ارتكبت مثلها تماما تحت راية المسيحية والصليب، والمشكلة هنا لا في الإسلام أو المسيحية، لكنها الطبيعة البشرية المدنسة للممارسات السياسية وطبيعة الصراعات على السلطة التي انطبقت علي كل التجارب الإسلامية والمسيحية واليهودية، الهندوسية والبوذية والسيخية وغيرها!

المستوى الثاني هو فى إعادة قراءة التاريخ باعتباره صراعا بين بشر وثقافات وتقاليد وسمات فيزيقية وتطورات علمية لا بين آلهة أو أديان أو شرائع! من انتصر، انتصر لأنه كان سباقا للثورات الاقتصادية والسياسية ومن ثم الاجتماعية التي ساعدته علي الدخول أولا فى التحديثات العسكرية ثم الولوج إلى التحديثات السياسية ومن ثم الاجتماعية وهو ما يعرف باسم “الحداثة” والتي فرض منطقها – ولايزال- المنتصر في هذا الصراع التاريخي! ومن انهزم انهزم لأنه لم يتمكن من اللحاق بالسباق العلمي والمعرفي ومن ثم لم يتمكن من فرض منطق التحديث علي غيره لا لأنه عصا الله أو بعد عن طريقه أو لأنه ضحية للمؤامرات!

أما التحول الثالث والأخير فيتمثل في البدء الفورى في التفكير في أطروحات أكثر عملية وواقعية بخصوص الشريعة الإسلامية وتطبيقاتها السياسية والاجتماعية في الحياة المعاصرة بعد التخفف من حمل التاريخ ومن ثم إعادة النظر في كل المفاهيم السياسية التي طُرحت وكأنها فروض إسلامية وجب على المسلمين اتباعها كالمفهوم البشرى الرائج للخلافة الإسلامية والحكم الإسلامي والنظام السياسي الإسلامي وما يرتبط بها من مفاهيم فرعية شغلت بالنا أكثر من اللازم وحجمتنا في التفكير واستنزفت جهودنا ووقتنا بلا طائل بحثا عن إرضاء الاتباع وعدم إغضاب الشلل والشبكات الداعمة لمثل هذه المفاهيم أسيرة الماضى السحيق التي لا علاقة لها بنصوص مقدسة أو بأوامر إلهية.

هذه التحولات من شأنها أن تحدث مصالحة حقيقية بين التراث الإسلامي الغاضب من الحداثة المتحفز للتطور والتقدم العلمى، المرتبك أمام ضرورات الحياة المعاصرة نحو خطوة أرحب تعيد قراءة مفهوم الشريعة الإسلامية وتطبيقاتها بشكل يتجاوز حصر الشريعة في خانة الحدود وكأنها مجرد قانون للعقوبات لا حكمة إلهية أشمل وأعمق تطرح قواعد أخلاقية وقيمية عامة باحثة عن وسائل إرساء العدل والحرية والإخاء والمساواة نحو الهدف الأسمى على الإطلاق ألا وهو “تعمير الأرض”.

***

مصالحة التراث على الحداثة نحو مفهوم مختلف لمعني الشريعة وتطبيقاتها في المجتمعات المعاصرة تعيد النظر في معني الحدود وتعظم من قيمة الحق في الحياة حتي للملحدين أو المرتدين أو التاركين أو الغاضبين من الدين الرافضين لتطبيق الشريعة وتعلي من قيمة التعددية والمواطنة والمساواة في الحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية هو موضوع نقاشات قادمة أنوى طرحها في هذه المساحة.

This entry was posted in دراسات سياسية وإقتصادية, دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.