يوميات معرض القاهرة للكتاب…1

منذ أسابيع قليلة انتهى معرض القاهرة الدولي للكتاب 2017…. و رغم اني سبق لي الحضور الى هذا المهرجان الهائل و المشاركة في بعض الفعاليات المختلفة و اجريت معي لقاءات إعلامية عديدة في سنوات سابقة… لكن لأول مرة كنت في دورة هذه السنة احد المدعوين بشكل رسمي للمشاركة في ندوتين ضمن البرنامج الرئيسي للمعرض و الذي يشكل جزء من استراتيجية الدولة لتنظيم المعرض و دعوة المثقفين و وسائل الاعلام العربية و غيرها…

و عندما نتحدث عن استراتيجية دولة فإننا لابد ان نوضح بان مفهوم الإسترتيجية يتعلق هنا بشكل خاص بالتطور الثقافي الذي يشكل الفضاء العام في البنية الاساسية للتنمية في اي مجتمع… و بناء على هذه الفكرة كانت مشاركتي في الندوة الاولى و التي كانت تحت عنوان واسع جداً و هو ” دور الدين في ثقافة المستقبل”..

في هذه السلسلة من المقالات … احاول ان اعرض لبعض الملاحظات التي لم يسنح وقت الندوة للتحدث عنها و التعمق فيه مآلاتها و تأثيراتها سواء فيما يتعلق بالجانب المعرفي .. او بدور تلك المعارف و البنية الثقافية في قضية التنمية و التطور الاجتماعي بصورة عامة…

قبل الدخول في المناقشات اود ان اقدم شكري الجزيل و امتناني العميق لمصر عموما و خاصة المسؤولين عن إدارة و تنظيم هذا العمل الضخم و في المعرض لشمولي بهذه الفرصة المهمة للتحدث في ندوتين مهمتين …. كما اقدم شكري لكل الزملاء الذين شاركوني الندوتين … سأذكر أسمائهم لاحقا… و لكل كل الباحثين و المثقفين و الاعلاميين و الناشرين و الشباب من المصرين ومن العرب الذين حضروا الندوتين او المعرض عموما و كذلك الذين جمعتني بهم لقاءات و جلسات جميلة في مقاهي وسط البلد … (سأتحدث عن هذه الظاهرة الثقافية الثرية في المقالات اللاحقة)… لكن من الضروري ان نذكر ان المجتمع المصري عبر تاريخه القديم و الحديث يقدم نموذجا رائعا يندر تكراره في مستوى التسامح و التعددية و الانفتاح بشكل اختيار ذاتي رغم الضغوط الاقتصادية و التحديات الخارجية الكثيرة…

لكن رغم هذه الصورة النموذجية الجميلة الا اننا لابد ان نعمل على تقديم تحليل و ملاحظات نأمل ان تساهم في النقاش العام الذي يرتكز اليه تنظيم المعرض عموما و خاصة الندوات و الفعاليات العديدة الاخرى في إطار برامجه…… في هذا الإطار سأبدأ سلسلة مقالاتي مع اشكالية الثقافة و المجتمع الثقافي …..

رغم ان الصورة الذهنية لمفهوم الثقافة تتبادر من خلال ميكانيزمات متميزة و منها الأدب و الفن و الاعلام و هيئات و جمعيات و فعاليات معينة و منها إقامة المعارض للكتاب ….. الخ… الا انه قد يكون من الضروري توخي الاختزال و النخبوية في التعامل مع الثقافة…. لان الاختزال يعني بشكل مؤثر حرمان المواطن …. اي مواطن بغض النظر عن طبيعة عمله و مستواه العلمي و الاجتماعي …. من الإحساس بقيمة دوره الكبير في التفاعل الثقافي و بالتالي في التطور الاجتماعي في المجتمع….

هذا الإحساس بالمشاركة يشكل أساسا ضروريا للانتماء المجتمعي و يلعب دورا أساسيا في تحفيز الدوافع لدى الانسان / المواطن في الشعور بالانتماء و تحمل المسؤولية … كمان انه يلعب دورا أساسيا في الحفاظ على العلاقة الهلامية الذي يشكل الإطار العام لمفهوم الانتماء الى المجتمع و بالتالي يشكل عاملا إيجابيا في العلاقة بين الدولة و المجتمع و بالتالي في العملية التنموية في المجتمع..

في الجانب المعاكس لهذا الإحساس العام فان واقع الاختزال و النخبوية قد يلعب دورا سلبيا في التطور الاجتماعي العام رغم الهالات و الصور البراقة و الإبداعات الجميلة لأهل الأدب و الفن و الفلسفة وغيرها كثير من الفعاليات التي تخلق بلا شك أسسا مهمة في البناء المدني للمجتمع… و الذي يخلق توازنا ضروريا للحفاظ و ديمومة المسار السلمي في التطور الاجتماعي في اي مجتمع…

الجانب السلبي في الاختزال و النخبوية يتعلق بفرضيتين واقعيتين و هما : اولا…. خلق شرخ اجتماعي يؤدي الى بشكل ما الى انفصام بين شرائح المجتمع و بالتالي يلعب دورا في تشويش مفهوم الانتماء وفق الأساس الوجودي الأولي و اعني بذلك المواطنة….ثانيا….النخبوية تساهم في الصراع السياسي على السلطة و بالتالي تعمق في تعقيد العلاقة بين الدولة و المجتمع… فالنخبة الثقافية قد تشكل حلقة وصل بين المطاليب الاجتماعية و قدرات الدولة و سلطتها … لكنها ايضا قد تشرعن الصراع سواء بالتحالف مع احد الطرفين او الوقوف في زاوية منعزلة و بالتالي زيادة مساحة الاحتكاك المباشر بين القطاعات الشعبية المهمشة و الفقيرة و مؤسسات الدولة و أدواتها …

في كلا الحالتين تميل النخبة الثقافية الى لعب دور سياسي و هذا يبعدها عن تمثيل روح التلاحم الاجتماعي و انعكاسها في ترسيخ التفاعل الاجتماعي التنموي .. خاصة ان فرضية “حلقة وسط” هي حالة مثالية عموما في التجارب التاريخية و يحتاج ثباتها و ديمومتها الى ظروف و مسارات لا تتوافر عادة بسبب التغيير المستمر في التطور الاجتماعي … ليس فقط اعتمادا على التحولات في البنية الاقتصادية في الداخل و الخارج … و إنما ايضا كنتاج لعمل النخبة الثقافية نفسها و تأثيرها في الواقع الاجتماعي …

كل هذه التغيرات و التحولات تؤدي الى زيادة الميل نحو تسييس العمل الثقافي و عليه فقد يتحول المجتمع الثقافي الى شبه منظمات او تنظيمات خاصة في المجتمعات الفقيرة تقارع سلطة الدولة …. بينما في المجتمعات الغنية يتفاعل المجتمع الثقافي مع الحاجات اليومية للمواطن و المجتمع بصورةعامة و بذلك يلعب دورا المجتمع المدني الوسيط بين الدولة و المجتمع…

في مصر… كما قلت في الندوة… فإننا ازاء مجتمع زاخر بتراث ثقافي ليس فقط تأسيسا على العمق التاريخي القديم و إنما ايضا في التاريخ الحديث و منذ تأسيس الدولة الوطنية فان الانتاج الثقافي في مصر يشكل ظاهرة كبيرة ذات تأثير واسع يمتد عبر حدود مصر الوطنية و القومية ( اعني العالم العربي و المجتمعات المسلمة) الى مختلف المجتمعات الاخرى …

هذا الثقل الكبير و التأثير الواسع يشكل بلا شكل أساسا واقعيا لظهور ما سميته ” الإمبراطوريات الثقافية” في مصر و هذا المفهوم يقربنا كثيرا من الكلام عن التسيس و الصراعات و النخبوية … في المقالات اللاحقة سنحاول مناقشة بعض المظاهر الثقافية و كذلك بعض الحلقات المهمة في الترابط الثقافي في المجتمع …

في المقالة القادمة سنناقش احد اهم الطروحات التي تناولتها شخصيا في الندوة الاولى و هو موضوع الشباب و تطور ثقافة الشباب في السنوات الاخيرة… قبل ذلك اود ان اشكر الدكتور نبيل عبد الفتاح … احد اهم باحثي مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية….الذي ادار الندوة الاولى و قدم مساهمة فعالة في الطروحات و النقاشات… و طبعا الشكر موصول للزميل الدكتور محمود عبد الله الباحث في المركز القومي للبحوث الجنائية لمساهمته الرائعة… حبي للجميع.

About اكرم هواس

د.اكرم هواس باحث متفرغ و كاتب من مدينة مندلي في العراق... درس هندسة المساحة و عمل في المؤسسة العامة للطرق و الجسور في بغداد...قدم الى الدنمارك نهاية سنة 1985 و هنا اتجه للدراسات السياسية التي لم يستطع دخولها في العراق لاسباب سياسية....حصل على شهادة الدكتوراه في سوسيولوجيا التنمية و العلاقات الدولية من جامعة البورغ . Aalborg University . في الدنمارك سنة 2000 و عمل فيها أستاذا ثم انتقل الى جامعة كوبنهاغن Copenhagen University و بعدها عمل باحثا في العديد من الجامعات و مراكز الدراسات و البحوث في دول مختلفة منها بعض دول الشرق الأوسط ..له مؤلفات عديدة باللغات الدنماركية و الإنكليزية و العربية ... من اهم مؤلفاته - الإسلام: نهاية الثنائيات و العودة الى الفرد المطلق', 2010 - The New Alliance: Turkey and Israel, in Uluslararasi Iliskiler Dergisi, Bind 2,Oplag 5–8, STRADIGMA Yayincilik, 2005 - Pan-Africnism and Pan-Arabism: Back to The Future?, in The making of the Africa-nation: Pan-Africanism and the African Renaissance, 2003 - The Modernization of Egypt: The Intellectuals' Role in Political Projects and Ideological Discourses, 2000 - The Kurds and the New World Order, 1993 - Grøn overlevelse?: en analyse af den anden udviklings implementerings muligheder i det eksisterende system, (et.al.), 1991
This entry was posted in فكر حر. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.