ماذا قال تلاميذ يسوع الناصري عن معلمهم؟ حوارات في اللاهوت المسيحي 13

عند دراسة أي شخصية تاريخية, يحتاج الباحث إلى قراءة آراء وانطباعات المقربين وكذلك المعاصرين
لتلك الشخصية فيدرس نظرتهم إليها, وطريقة تعاملهم معها ,ضمن إطار ثقافة وأعراف المجتمع الذي كانوا جميعا ينتمون إليه, في الفترة الزمنية التي وقع فيها الحدث التاريخي المرتبط بالشخصية موضوع البحث.

الايمان المسيحي يقوم كله على شخص يسوع الناصري, يبتدأ به وينتهي إليه, لذلك من المهم في
الحوار اللاهوتي أو البحث التاريخي ,سبر أغوار هذه الشخصية ودراستها من جميع الجوانب, والبحث في نظرة المعاصرين له وتحليل ما وصل إلينا من أقوال سطروها حول يسوع الناصري, تعكس لنا تلك النظرة , وكذلك حقيقة إيمانهم بشخصية يسوع الناصري.

في هذا المقال, نستعرض بعض أقوال تلاميذ يسوع الناصري حول شخص معلمهم ,وكذلك أقوال بعض
من عاصره والتقى به ,لغرض معرفة حقيقة إيمان هؤلاء الناس بشخصية يسوع ,وكيف كانوا ينظرون اليه ,و ماهي المنزلة التي كانوا يضعونه فيها, مع الأخذ بنظر الاعتبار ملاحظتين مهمتين :

الأولى: أن يسوع الناصري وتلاميذه ,كانوا جميعا أبناء مجتمع يهودي, ينتمون إلى بيئة وثقافة
اليهود, ويستخدمون لغة ذلك المجتمع, وفق المعاني المفهومة لدلالات الألفاظ التي يستخدمها أفراد ذلك المجتمع في زمنهم.
فمثلا كلمة (الرب) كان اليهود يستخدمونها احيانا لتعطي معنى (المعلم) وكلمة (ابن الله)
يستخدمونها للاشارة الى الانسان المقرب والمبارك من قبل الله مثل إسرائيل( يعقوب) وسليمان والمسيح الموعود, الذي ينتظرونه, وكذلك قضاة اليهود, بل ويستخدمونها لوصف جميع اليهود احيانا باعتبارهم ابناء الله الحي حسب نصوص الكتاب المقدس
(لكن يكون عدد بني اسرائيل كرمل البحر الذي لا يكال ولا يعد ويكون عوضا عن ان يقال لهم لستم شعبي يقال لهم
ابناء الله الحي) سفر هوشع 1\10

الثانية : ان المسيح الموعود,
الذي كان اليهود ولا زالوا ينتظرونه, هو انسان ممسوح (ماشيح) بالزيت المقدس, والذي يعني حصوله على مباركة الله وعلى مرتبة مقدسة ومؤيد بسلطان الله ونصره ,ليكون ملكا عظيما يجعل جميع الأمم تخضع لملكه الذي سيفرض تفوق اليهود واستمرار مملكتهم إلى آخر الزمان, بنفس الوقت
,هم لا يعتقدون بألوهية هذا المسيح الموعود ,ولا يعتقدون امتلاكه وتميزه بأي صفة من صفات الربوبية, وهذا الاعتقاد, كان منذ أيام السبي البابلي ولا زال اليهود على نفس الاعتقاد إلى يوم الناس هذا.
وقد أوضحنا في المقالات السابقة كيف أن جوهر الخلاف بين يسوع وأتباعه, وبين كهنة اليهود
والجموع التي تتبعهم, كان حول (مسيحانية) يسوع ,حيث رفض الكهنة الإقرار ليسوع أنه المسيح واعتبروا ادعائه تجديف وافتراء, وعرفنا أسباب رفض اليهود ومقاومتهم, حتى وصل الأمر إلى الحكم على يسوع بالموت لادعائه المسيحانية.

وعند تفحص اقوال تلاميذ يسوع الناصري, نجدهم يركزون على إيمانهم بمسيحانية معلمهم, والذي
من الطبيعي أن يكون ضمن المفهوم والتصور اليهودي لهذه المنزلة التي تجعل صاحبها مقربا ومباركا من الله (ابن الله)
ففي الإنجيل المنسوب إلى (يوحنا) ,وهو آخر الأناجيل القانونية كتابة من حيث الترتيب الزمني,
نجد كاتب الإنجيل يسطر لنا بشكل مختصر وواضح في نهاية إنجيله فكرة الايمان المسيحي
(
واما هذه فقد كتبت لتؤمنوا ان يسوع هو المسيح ابن الله ولكي تكون لكم اذا امنتم حياة باسمه) يوحنا 20\30

وهذا المعنى نفسه قاله التلميذ بطرس أمام يسوع الناصري ,ملخصا اعتقاد
التلاميذ بشخصية معلمهم يسوع , والذي وافق على ذلك الاعتقاد ولم يعترض عليه, ولم يطلب منهم أن يعتقدوا بأكثر من ذلك ,فحين سأل يسوع تلاميذه
(وانتم من تقولون اني انا؟)
أجاب كبير التلميذ بطرس نيابة عنهم
(انت المسيح) حسب إنجيل (مرقص), و (مسيح الله) حسب إنجيل (لوقا) ,اما انجيل (متى) المتأخر
زمنيا عنهما , فقد اضاف الى إجابة بطرس جملة اخرى ( انت هو المسيح ابن الله الحي)
وهذه الإضافة لا تغير شيئا في المعنى والدلالة, لأن اليهود كانوا يعتبرون أنفسهم أبناء
الله الحي كما أوردنا في أول المقال.

وفي خطبته الشهيرة أمام جموع اليهود ,نجد التلميذ بطرس يعلن للناس أن يسوع هو إنسان (رجل)
أيده الله بمعاجز وآيات وقد دعى الناس للإيمان بمسيحانية يسوع, ولم يطلب منهم الإيمان بشئ آخر, كالتجسد أو الأقانيم الثلاث وغيرها

(ايها الرجال الاسرائيليون اسمعوا هذه الاقوال يسوع الناصري رجل قد تبرهن لكم من قبل الله بقوات وعجائب وايات صنعها الله بيده في وسطكم كما انتم
ايضا تعلمون) أعمال الرسل 2 \22

وفي أعمال الرسل 3\13 يتكلم التلميذ بطرس عن تمجيد
الله (لعبده) يسوع, فيقول حسب نسخة الاباء اليسوعيين

(إِنَّ إِلهَ
إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، إِلهَ آبَائِنَا، مَجَّدَ عبده
يَسُوعَ، الَّذِي أَسْلَمْتُمُوهُ أَنْتُمْ وَأَنْكَرْتُمُوهُ أَمَامَ وَجْهِ بِيلاَطُسَ)

وهنا نلاحظ ان بعض المترجمين شعروا بالحرج من كلمة (عبده)
فقاموا بتغييرها في الترجمات الأخرى إلى كلمة (فتاه) ورغم هذه المخاتلة اللفظية, يبقى المعنى نفسه, لأن كلمة (فتى) في المفهوم اليهودي ,تستعمل أحيانا لوصف العبد أو الخادم كما هو وارد في نفس الكتاب المقدس ,الذي استخدم كلمة (فتاه) ليصف اسرائيل (يعقوب) وكذلك في وصف
النبي داود ولم يكن وصفا خاصا بيسوع فقط

(عَضَدَ إِسْرَائِيلَ فَتَاهُ لِيَذْكُرَ رَحْمَةً)
لوقا 1\54
(وامتلا زكريا أبوه من الروح القدس وتنبأ قائلا:«مبارك الرب اله اسرائيل لانه افتقد وصنع فداء لشعبه
وأقام لنا قرن خلاص
في بيت داود فتاه.) لوقا 1 \ 69

وينقل لنا إنجيل( لوقا) أيضا محاورة مهمة, بين يسوع الناصري واثنين من تلاميذه, عقب واقعة الصلب حيث يخبر التلميذان عن معلمهم يسوع, ويصفونه بوصف
مهم, تقبله منهم يسوع, ولم ينكره عليهما او يضيف عليه وصف آخر
فنقرأ وصف يسوع الناصري على لسان اثنين من تلاميذه بأنه كان إنسان ونبي

( الَّذِي كَانَ إِنْسَانًا نَبِيًّا مُقْتَدِرًا فِي الْفِعْلِ وَالْقَوْلِ أَمَامَ اللهِ وَجَمِيعِ الشَّعْبِ) لوقا 24

وفي انجيل (يوحنا) الاصحاح 13 يتحدث
الكاتب عن لقاء العشاء الأخير, بين يسوع الناصري والتلاميذ ,فنلاحظ ان يسوع الناصري بنفسه يتحدث عن نظرة تلاميذه واعتقادهم بشخصه, حيث يعتبرونه معلما لهم وسيدا ونجده يقر لهم هذا الاعتقاد ويوافق عليه ولم يطلب منهم أن يضيفوا لايمانهم بشخصه اي صفة اخرى
( انتم تدعونني معلما وسيدا وحسنا تقولون لاني انا كذلك)

ولو بحثنا في انطباع الناس الذين عاصروا يسوع الناصري ,وشاهدوا
بعض المعاجز التي أجراها الله على يديه ,نلاحظ ان إيمانهم بشخصه, لم يتعد كونه نبي عظيم ,ورجل صالح ,مؤيد ومقدس من الله ,فعندما قام يسوع باحياء احد الموتى ,نجد ان الناس ابتهلوا لله شاكرين, لأنه أقام فيهم نبي عظيم حسب انجيل لوقا الاصحاح 7 \16

( فَأَخَذَ الْجَمِيعَ خَوْفٌ، وَمَجَّدُوا اللهَ قَائِلِينَ: «قَدْ قَامَ فِينَا نَبِيٌّ عَظِيمٌ، وَافْتَقَدَ اللهُ شَعْبَهُ)

ولم يعترض يسوع الناصري على وصفهم, او يصحح لهم فهمهم ,ولم يضف الى وصفهم لشخصه اي صفة اخرى
ونفس الأمر يتكرر مع الشاب الأعمى الذي ارجع له يسوع بصره, فحين سألوه عن يسوع قال لهم:

(قالوا أيضا للأعمى: ماذا تقول أنت عنه من حيث إنه فتح عينيك؟ فقال: إنه نبي ) يوحنا 9

ويتكرر وصف يسوع الناصري بالنبي على لسان المرأة السامرية التي خاطبت يسوع بشكل مباشر وصريح قائلة له

( يا سيد ارى انك نبي ) يوحنا 4\19

وأقر لها يسوع هذا الوصف, ولم ينكره أو يصححه لها, ولم يضف إليه أي وصف آخر لشخصه, أو يطلب منها أن تعتقد في شخصه بأكثر
من كونه نبيا ,بل في نفس المحاورة أوضح يسوع لتلك المرأة, الفرق بين عبادة قومها وبين عبادته
هو وقومه (اليهود) , فهو بشر ينتمي إلى قوم يعبدون ويسجدون للاله الذي يعرفوه

(أَنْتُمْ تَسْجُدُونَ لِمَا لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ، أَمَّا نَحْنُ فَنَسْجُدُ لِمَا نَعْلَمُ) يوحنا 4\ 22

المتتبع للنصوص التي تتطرق إلى انطباع الناس المعاصرين ليسوع الناصري ,وحقيقة إيمانهم بشخصه , يلاحظ بشكل لا يقبل التأويل
أو اللبس, إن الجموع التي صدقته
وآمنت به ,ورأت معاجزه, كانوا جميعهم يؤمنون بأن يسوع الناصري هو نبي مبارك ,وقد
صرحوا بإيمانهم هذا أمام يسوع الناصري نفسه ولم يعترض عليهم او يصحح لهم إيمانهم به
فحين دخل يسوع الناصري لأورشليم, كانت الجموع التي استقبلته بحفاوة وتبجيل تصرخ وهي ترحب به

وَلَمَّا دَخَلَ أُورُشَلِيمَ ارْتَجَّتِ الْمَدِينَةُ كُلُّهَا قَائِلَةً: «مَنْ هذَا؟»
فَقَالَتِ الْجُمُوعُ: «هذَا يَسُوعُ النَّبِيُّ الَّذِي مِنْ نَاصِرَةِ الْجَلِيلِ» متى 21\ 10

ان جميع الذين آمنوا بيسوع واتبعوه ,كانوا يعاملونه على اساس انه النبي المبارك الذي مسحه الله بالزيت المقدس (ماشيح),
فالتفوا حوله و بجلوه, وعاملوه كواحد من أنبياء بني اسرائيل ,الامر الذي جعل كهنة
اليهود يتخوفون من إلقاء القبض على يسوع أمام تلك الجموع التي كانت تعتبره نبيا وتتعامل معه على هذا الأساس
(وَإِذْ كَانُوا يَطْلُبُونَ أَنْ يُمْسِكُوهُ، خَافُوا مِنَ الْجُمُوعِ، لأَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُمْ مِثْلَ نَبِيٍّ) متى
21

وخلاصة القول ان جميع الناس الذين عاصروا يسوع الناصري وشاهدوه
,من تلاميذ وأتباع, كانوا يعتبرونه انسان مبارك و ممسوح بالزيت المقدس , اختاره الله وقربه إليه, فأصبح في مرتبة
العظماء من انبياء بني اسرائيل مثل ابراهيم واسرائيل وسليمان و داوود, فاستحق وصف
(ابن الله) كما كان اولئك الانبياء موصوفين انهم ابناء الله, وأنه نبي عظيم وأنه المسيح الذي أرسله الله وأيده بمعجزات وآيات, من أجل هداية الناس وإنقاذهم من الضلال ,وتصحيح الانحراف العقدي, لكي يحصلوا على الخلاص الذي يوصلهم إلى النعيم الابدي.
ولم نجد أحدا من تلاميذ أو معاصري يسوع, تكلم عن (اللاهوت الذي حل بالجسد) ولا عن (تجسد
الاله بشكل انسان) ولا عن الأقانيم الثلاثة, أو غيرها من الأفكار التي وضعها – لاحقا – شاؤول( بولس) وأصبحت فيما بعد ,من اساسيات الايمان المسيحي رغم ان شاؤول لم يلتق بيسوع ولم يره ابدا.

د.جعفر الحكيم

About جعفر الجكيم

جعفر الجكيم 45 عام طبيب عراقي مقيم في الولايات المتحدة نيويورك- ضاحية مانهاتن ناشط في مجال المجتمع المدني وحقوق الانسان باحث في مجال مقارنة الاديان ممثل لمنظمات مجتمع مدني عراقية في الامم المتحدة بنيويورك منذ 2007 ولا زال رئيس تحرير جريدة المهاجر - ولاية اريزونا- مدينة فينكس للفترة 2005 من 2011الى لي مشاركات عديدة في برامج حوارية حول مقارنة الاديان في قناة الكرمة ارجو التفضل بقبول جزيل شكري ووافر احترامي د.جعفر الحكيم
This entry was posted in فكر حر. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.