حوارات في اللاهوت المسيحي 11 علاقة يسوع الناصري بوالدته في النصوص الإنجيلية

شخصية السيدة (مريم) والدة المسيح, كما تظهرها نصوص الأناجيل, شخصية عظيمة ومتفردة تستحق الاعجاب, بل والانحناء
لها تقديرا واحتراما, فهي مثال الشابة المؤمنة الصابرة والمتواضعة والخاضعة تماما لإرادة الرب ومشيئته
لكن بنفس الوقت, سيلاحظ الباحث عن سيرة هذه السيدة العظيمة في نصوص الأناجيل أمرا يثير الدهشة والصدمة, وهو إصرار
كتبة الاناجيل على اظهار السيد المسيح وهو يتعامل مع والدته بطريقة جافة ,استعلائية, وغير لائقة, كما سنرى.

تظهر شخصية السيدة (مريم) في النصوص مبكرا, فهي الشابة المؤمنة العفيفة الطاهرة, والتي اخبرها الملاك بحلول الروح
القدس عليها, وحملها بالمسيح الموعود والذي( يدعى ابن العلي) ثم تخبرنا النصوص عن الولادة والأحداث التي تلتها مثل أخذ الطفل لمباركته في الهيكل, وكذلك الهروب إلى مصر, وبعدها تحدثنا النصوص عن مناسبات أخرى تظهر فيها السيدة, سنتطرق لها لاحقا, ثم نجد آخر ظهور للسيدة
(مريم) في مشهد الصلب المأساوي حيث كانت أحد الحضور القلائل.

بعد ذلك, تغيب شخصية السيدة (مريم) بشكل كلي ومفاجئ عن الأحداث اللاحقة والمهمة!!, فلا نجد لها ذكرا في الأحداث
التي تلت (القيامة) المزعومة, ولم تكن من ضمن الاشخاص الذين التقاهم المسيح بعد قيامه من الموت,رغم أنه التقى بتلاميذه وكذلك التقى بسيدتين,وهما مريم المجدلية ومريم زوجة يعقوب.

ان العلاقة بين السيد المسيح ووالدته, التي اراد السادة كتبة الأناجيل القانونية الأربعة تصويرها, تعكس تصورهم وقناعتهم
عن شخص المسيح, وليس بالضرورة العلاقة الحقيقة بين المسيح ووالدته, فقد اظهروه وهو يتعامل مع والدته بأسلوب يفتقر إلى اللياقة والتوقير والتبجيل الواجب عليه تجاه شخص ومقام والدته الكريمة.

ففي أول حادثة بين السيدة مريم وابنها يسوع ( الصبي) عندما كان عمره 12 عاما, وكما ذكرت في المقال السابق, نجد يسوع
الذي كان يتمتع بعقل وفكر وذكاء أكبر بكثير من عمره, بحيث اثار اعجاب المعلمين في الهيكل, ومع ذلك وجدناه يتعامل وقتها مع والديه أسلوب التجاهل وعدم إقامة الاعتبار لهما, فقام الصبي الذكي بالتخلف عن أبويه والبقاء في الهيكل المقدس, من دون طلب الإذن منهما, ولا حتى
اعلامهما, مما تسبب لاحقا في إثارة فزعهما وخوفهما, فاضطرا لتجشم عناء العودة لاورشليم بحثا عن الصبي المفقود.
وعندما وجدته أمه, بعد 3 أيام من البحث عنه, عاتبته برفق وأدب لأنه تسبب في عذابهما وذعرهما, نجد النص يصور(يسوع
الصبي) وهو يجيب والدته بطريقة خالية من اي اعتذار او تعاطف, بل تشي بتوبيخ غير مباشر( انظر لوقا 2\43-49)
(فَلَمَّا
أَبْصَرَاهُ انْدَهَشَا. وَقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ: يَا بُنَيَّ، لِمَاذَا فَعَلْتَ بِنَا هكَذَا؟ هُوَذَا أَبُوكَ وَأَنَا كُنَّا نَطْلُبُكَ مُعَذَّبَيْنِ!
فَقَالَ لَهُمَا: لِمَاذَا كُنْتُمَا تَطْلُبَانِنِي؟!! أَلَمْ تَعْلَمَا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَكُونَ فِي بيت أَبِي؟)
ان السلوك الاستعلائي الذي حاول كاتب هذا النص اضفائه على شخصية المسيح وهو يتعامل مع أبويه, يتناقض تماما مع تعاليم
الكتاب المقدس, ومع ما جاء في الوصايا العشرة , والتي جاء فيها ( اكرم اباك وامك) وإكرام الأبوين يبدأ بتبجيلهم وتوقيرهم واحترام منزلتهم ومقامهم, وليس تجاهلهم وعدم إقامة أي اعتبار لمشاعرهم ومعاناتهم!

وفي حادثة أخرى, نجد يسوع الناصري يتصرف حيال مقام والدته بشكل مثير للاستغراب والاستهجان, عندما تجاهل حضورها لمقابلته,
كما تخبرنا النصوص, ففي( متى) الاصحاح 12 وعندما كان يسوع مجتمع مع تلاميذه
فَقَالَ لَهُ وَاحِدٌ: هُوَذَا أُمُّكَ وَإِخْوَتُكَ وَاقِفُونَ خَارِجًا طَالِبِينَ أَنْ يُكَلِّمُوكَ
فَأَجَابَ وَقَالَ لِلْقَائِلِ لَهُ: مَنْ هِيَ أُمِّي وَمَنْ هُمْ إِخْوَتِي؟!!
ثُمَّ مَدَّ يَدَهُ نَحْوَ تَلاَمِيذِهِ وَقَالَ: هَا أُمِّي وَإِخْوَتي
)
وقد تكررت نفس القصة في الأناجيل الأخرى, ولم يذكر اي منها ان يسوع قام إلى والدته وقابلها بعد الاجتماع!!
وهذا النص أوقع المفسرين اللاهوتيين في حيرة!, فنجدهم يحاولون تبرير هذا العمل المستهجن بتبريرات متكلفة و واهية
من قبيل, أنه تصرف بهذا الشكل لكي يؤكد على العلاقة الإيمانية وتقدمها على العلاقة العائلية!!
فهل أفلس المسيح من الوسائل والأساليب لتأكيد ذلك,ولم يجد وسيلة إلا تجاهل والدته وكسر قلبها, والحط من قدرها,ومعاملتها
معاملة غير المؤمنين,رغم انها كانت (المؤمنة الأولى) ؟!!

ان من أهم مصاديق اكرام الأبوين, تنفيذا لما جاء في الوصايا العشرة, هو معاملتهم بأسلوب فائق الاحترام والتهذيب
وإشعارهم بمكانة الأبوة والأمومة , وتوقير هذه المكانة في حضورهم وهذا ما نتوقعه من شخص بمنزلة السيد
المسيح
لكن الباحث في نصوص الأناجيل, لا يجد يسوع الناصري يخاطب السيدة والدته بكلمة( امي) ولا مرة واحدة!!

بل على العكس كان يخاطبها, كما يخاطب أي سيدة غريبة عنه, ونجده يكلمها ويناديها بكلمة ( يا امرأة !!)
وقد تكرر هذا الأسلوب عدة مرات, ولم يكن مجرد صدفة او تصرف منفرد في حادثة وحيدة, فعندما نقرأ قصة حضور يسوع ووالدته
في احد اعراس الجليل, وحين اخبرته امه ان الخمر قد نفذ,نجد يسوع يجيبها منتهرا:
(مَا
لِي وَلَكِ يَا امْرَأَةُ؟ لَمْ تَأْتِ سَاعَتِي بَعْدُ ) يوحنا 2\4
وفي مشهد الصلب, نجد يسوع ينادي أمه – التي كان يتفطر قلبها ألما من هول المشهد وفظاعته- مشيرا الى أحد تلاميذه
( يا امرأة ..هوذا ابنك- يعني احد التلاميذ)يوحنا 26\19

ان مخاطبة يسوع لوالدته السيدة مريم بهذا الاسلوب الذي يخلو من التوقير والتهذيب المطلوب أمام مقام الأم, يثير الصدمة
والاستغراب من حقيقة طريقة تعامل السيد المسيح مع والدته, فهل حقا كان يناديها بعنوان ( يا امرأة) كما ينادي أي امرأة غريبة عنه؟ مثلما رأيناه وهو ينادي المرأة السورية التي توسلت إليه و ناشدته المساعدة وكذلك مثلما خاطب الزانية التي جلبوها لكي يتم رجمها.
وقد حاول المفسرون للإنجيل أن يخرجوا من هذا المأزق الأخلاقي,فلم يجدوا مخرجا سوى محاولة اللعب على دلالة المعنى
والمراوغة اللفظية, فقالوا ان استخدام كلمة ( يا امرأة) امر عادي عند اليهود و أسلوب مخاطبة محترم ومقبول!!
ولو سلمنا لهم بذلك, وقبلنا ان لفظ (يا امرأة) تقابل استخدامنا للفظ (سيدة) فهل من المعقول والمقبول أن يخاطب أي
شخص محترم ومهذب والدته او اخته بكلمة ( يا سيدة) بدلا من ( يا امي او اختي).
ان استعمال اللفظ في غير محله يفقد المعنى قيمته الاعتبارية, فكلمة (يا سيدة) مقبولة ومحترمة عندما تخاطب بها أي
امرأة غريبة , لكن بنفس الوقت تصبح لفظة مستهجنة وغير مناسبة عندما تخاطب بها والدتك او اختك او زوجتك!
والامر الاهم, هو عدم صدق الادعاء بأن اليهود كانوا يخاطبون امهاتهم بكلمة ( يا امرأة) بدلا من (يا امي) , فها هو
الملك سليمان, وهو احد اعظم شخصيات اليهود وأكثرها اهمية من حيث المكانة والتأثير, نجده يتعامل مع والدته (بثشبع) بأسلوب غاية في الاحترام والتوقير والتهذيب, ويناديها بكلمة (يا أمي) وليس (يا امرأة !!)
فبعد جلوسه على عرش الملك, طلب احد اخوته أن تتوسط له عند الملك سليمان
(فدخلت
بثشبع الى الملك سليمان لتكلمه عن ادونيا.فقام الملك للقائها وسجد لها وجلس على كرسيه ووضع كرسيا لام الملك فجلست عن يمينه. وقالت انما اسالك سؤالا واحدا صغيرا.لا تردني.فقال لها الملك اسالي يا امي لاني لا اردك)
سفر الملوك الأول\ الإصحاح 2

وأترك للقارئ الكريم المقارنة بين أسلوب معاملة الملك العظيم (سليمان) لوالدته والاسلوب الذي يريد السادة كتبة الأناجيل
اقناعنا بان السيد المسيح كان يعامل به والدته السيدة ( مريم).

د. جعفر الحكيم

About جعفر الجكيم

جعفر الجكيم 45 عام طبيب عراقي مقيم في الولايات المتحدة نيويورك- ضاحية مانهاتن ناشط في مجال المجتمع المدني وحقوق الانسان باحث في مجال مقارنة الاديان ممثل لمنظمات مجتمع مدني عراقية في الامم المتحدة بنيويورك منذ 2007 ولا زال رئيس تحرير جريدة المهاجر - ولاية اريزونا- مدينة فينكس للفترة 2005 من 2011الى لي مشاركات عديدة في برامج حوارية حول مقارنة الاديان في قناة الكرمة ارجو التفضل بقبول جزيل شكري ووافر احترامي د.جعفر الحكيم
This entry was posted in فكر حر. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.