مـمـتـاز البحرة دخل البـيوت من خلال حقيبة الكتب المدرسية لأطفالنا

عبدالرزاق كنجو- مجلة بناة المستقبل ع10/تموز 2014

باسم ورباب

ميسون وباسم ورباب. أولئك الأطفال الذين رافقوا كتبنا الابتدائية إلى وقت قريب . فلقد تعلّم التلميذ ابجدية الكلمات الأولى, من خلال الرسومات التي ترافقها ويقرؤها التلميذ قبل الكلمة, ذلك لأنها الأسرع الى الفهم والتعبير من الحرف والكلمة المجرّدة. فالتعلّم بالرسم من أقدم النظريات التربوية, لأن الصورة الشاملة تنتقل الى حواس الإنسان وتترسخ فيها , قبل الشكل الرمزي للحرف والكلمات , وهذا ماجعل أهل الكتابة يحرصون على تدعيم نصوصهم برسوم يدوية , كانوا يسمونها قديما (المنمنمات). وظيفة هذه الرسوم , وضع القاريء ونقله الى الجو الذي يصوّره الكاتب بالكلمات , وقد اشتهر بها (الواسطي) على سبيل المثال . كان لابد لترسيخ المفاهيم التربوية من إرفاق الرسوم التوضيحية , وخاصة في المراحل الأولى من التعليم, كما كان الحرص أكبر , بأن تكون تلك الرسوم معبّرة بأسرع الطرق عن المعنى وذلك لتسبق الحروف المكوّنة للكلمات وللجمل , وهذا ماكان يتطلب السعي والبحث عن افضل الرسامين , وبعد البحث والسعي اعتمدت وزارة التربية على الفنان الذي دخل بيوتنا من خلال مارسمه في كتب القراءة للمرحلة الابتدائية , وبألوان جعلتنا نتمتع بموضوع الدرس وطريقة استيعابه.

الفنان /ممتاز البحرة/ الذي أمسك قلمه كرسّام متمكن بخطوطه اللّينة التي أغناها ايضا بألوانه الزاهية المحببة لادراك التلميذ في هذه المرحلة الاولى من عمره, فرسم علم البلاد وهو يخفق في السماء الزرقاء الصافية كما رسم الأب الكادح أمام اسرته والأم وهي تعدّ الطعام وتربي اطفالها, كما رسم النجار وهو “يضحك في يده المنشار” والمعلّم امام السبورة, والجندي على دبابته, وكل ذلك في مواقف واشكال تدعو التلميذ لتكريس القيم والمباديء التعليمية والتربوية.

درس الفنون في مصر في عهد الوحدة بين القطرين السوري والمصري , لكنه عاد الى سورية إبان الانفصال, وتخرّج من كلية الفنون بدمشق بدرجة ممتاز.

شكّلت قضية الانفصال عنده صدمة وطنية كبيرة, حدّدت اتجاهه القومي والتزامه الوطني ودفعته الى التعبير عن هواجسه ومواقفه برسوم كاريكاتيرية جارحة للنظام السياسي الوطني , والعربي المتعثر, والذي حاول جاهدا تقديم النقد السياسي من خلال رسومه المنشورة او المطبوعة بشكل سري بعيداً عن عيون رقيب الصحف والمطبوعات.

وهذا ما اوقعه بتهم معاداة السلطات, ونتيجة لذلك تم اعتقاله ومحاكمته ميدانيا واصدار الحكم عليه بالإعدام مع بعض الكتّاب والمفكرين الوطنيين. لحسن حظه وقبل تنفيذ الحكم بساعات معدودات , قامت الثورة ضد الإنفصال وتحرر بذلك من قيده ومن إعدامه. إبتعد عن الكاريكاتير نتيجة الملاحقات والمضايقات والتهديدات اليومية , فراح يرسم المواضيع الوطنية للإنتفاضة في فلسطين. ويساهم بالرسوم التوضيحية للمقالات المنشورة في عدة صحف ومجلات محلّية وعربية , وأصبحت رسومه تزيّن غلاف مجلة “أسامة” التي تصدرها وزارة الثقافة السورية, وكذلك الأمر في الرسم المتواصل لمجلة ماجد وسندباد وابتدع شخصيات قصصية لها (كراكتر) معيّن كألف ليلة وليلة وغيرها, وتعاون مع صفوة الكتّاب أمثال زكريا تامر وسعد الله ونوس وعادل ابو شنب ونجاة قصاب حسن وغيرهم. لذلك كان يعتبر أفضل من يرسم للقصص المنشورة في المطبوعات منذ أوائل السبعينيات وحتى أواخر التسعينيات من القرن الماضي.

لقد كان يجيد رسم الأشخاص بكافة الوضعيات التشريحية للجسم مع المحافظة على شكل وأزياء الألبسة المحلية وتطريزاتها, كما تميّز برسم اليدين وحركاتها التعبيرية بإسلوب واضح ومبسّط. والأهم من كل ذلك أن رسومه تعبر وتساير عقلية الطفل وتصوراته الذهنية للنصوص المحاذية. لقد استحوذت رسوم الأطفال والكتب معظم أعماله. وزغم كل ذلك فقد ترك من إرثه لوحة جدارية كبيرة على جدران (بانوراما الجندي المجهول) والتي تزيد مساحتها على 45 مترا مربعا, تخـلّـد فيها البطل يوسف العظمة ومقارعتة الاحتلال الفرنسي في (معركة ميسلون) الشهيرة. كان يحرص على أن يحـوّل سطح الورقة الى لوحة متكاملة ومتناغمة مع النصوص المكتوبة, مع دراسة الفراغ المتناسب الذي يتيح لها المتنفس اللّازم, لكي لاتضيع السطور بين الرسم , ولا ان يطغى الشكل ويأخذ نظر العين والفكر بعيداً عن محتوى النصوص المجاورة, وهذا مايحقق التوازن بين أرجاء الصفحات المتقابلة عند فتح الكتاب. أمضى الفنان ممتاز البحرة معظم سنوات عمره وهو يتطلع الى إصدار مجلة خاصّة للأطفال لأنه يعتقد أن طفلنا يريد أن يرى نفسه برسومه المحلية, وبلغته العربية, التي تعبر عن عاداته وتطلعاته. رغم انتشار دور النشر وتعدد إصدارات الكتب والمجلات إلاّ أنه كان يشعر بفقدان الحيّـز الأهم من مرحلة تكوين ثقافة الطفل. ولهذا جهد نفسه للتواصل مع القريبين من تطلعاته وافكاره من الكتاب والأدباء, وكان يشعر بخلو أو افتقار السّاحة التي تجمع بين الكتاب المتخصصين بأدب الأطفال, وأن هناك فرقا شاسعاً بين من يكتب للأطفال وبين من يكتب للكبار. وعندما لم يجد من يأخذ بيده للوصول الى هذا الهدف, راح بعيدا في عزلة تامّة سبق أن إعتاد عليها في معظم سنين حياته. ترك بيته وسكن في “دار السعادة للمسنين” والتي قدّمت له الرّعاية وكل مايلزم من أجل مواصلة تقديم ابدعاته, لكنه انقطع عن المحيط الخارجي في عزلة ارتضاها هو لنفسه.

قد يكون مبعث ابتعاده عن الناس, العتب الكبير على مجتمع, لم يقدّر له مساهماته الفريدة. كان يزوره ــأحياناــ قلّة من الأصحاب في مكان إقامته بدار المسنين, ويصطحبونه في مشاوير وجلسات قصيرة لإخراجه من عزلته وكان يسعد بها كثيرا. حتى أنه قال: إذا عدت للرسم في يوم ما من جديد فسيكون بسبب هذا التكريم ومحبة الأصدقاء. قال الفنان موفق قات في افتتاح المعرض الخاصّ بتكريم ممتاز البحرة: نحن نسعى الى تكريم جهود المعلمين الكبار الذين تركوا بصمة واضحة ومتميزة في الفن السوري. لقد احتلّ ممتاز البحرة مكانا واسعا في ذاكرتنا, ودخل بيوتنا من خلال

This entry was posted in الأدب والفن, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.