مسكينة أنتِ يا أمي…

كنتِ طفلة لبنانية أرجنتينية، سعيدة كما يكون الأطفال سعداء في بلاد أخرى.
خاف أبوكِ أن تطول غربتكم فأتى بكِ مع أمك وأختيك وأخويك إلى بيروت.

إسمك جميلة مراد وصورتك جميلة مع أخواتك منيرة وايما وأخويك جميل وفؤاد على رصيف ميناء بيروت يوم وصلت بكم الباخرة عام 1929.
ثلاث أميرات جميلات يلبسن قبعات أوربية وفساتين راقية، وشابان وسيمان مع أمهم، يَطَأون أرض الوطن.

بقيت الاسبانية لغة التخاطب بينكم حتى مع فؤاد الذي عاد الى الأرجنتين. ودام الحب بين الإخوة حتى نهاية حياتهم.

كانت فرنسيتكِ الأجمل في البيت وطورتِ انكليزيتك بالمران أما العربية فقد أجدتيها، رغم أنَّ أبي وأنا من بعده كنا نمضي معك ساعة على الأقل قبل أي كلمة عامة كان عليك إلقاؤها.
جميلٌ ان أتذكر أنكِ كنت تجيدين أربع لغات وتحرصين على تعليمنا اللياقة الإجتماعية واللباقة في التعامل والكياسة في المآدب. كنتِ عربية، أجنبية الطباع في مجتمع دمشقي عربي خالص.

أكملتِ دراستك في بيروت قبل أن تلتقي بأبي. قالت لك أمك هذا شاب جيد وأطعتِ فقد كنتِ مسالمة ومدركة أن الحب الحقيقي يأتي بعد الزواج.

تزوجتِ وأخواتك ربما من أفضل الموجود، تزوجت منيرة الشاعر الحلبي الكبير عمر أبو ريشة وايما التاجر البيروتي المرموق وفيق النصولي وأنتِ الطبيب الدمشقي المعروف مدني الخيمي. رحمكم الله جميعاً.

في شهر العسل، أعطاكِ أبي 400 دولار لكي تتسوقي. في اليوم التالي دسَّ يده في حقيبتكِ وسحب مائة دولار ثم انتظر ليرى رد فعلك. لم يأتِ رد الفعل ولاحظ أنك لم تكترثي لفقدان المال فأعاده إليكِ. روى لي هذه القصة وانا في دراستي الثانوية قائلاً: ‘نشأت يا ولدي في أسرة لا تكترث للمال، فاحرص أن تكون ناجحاً في مهنتك حتى تغطي دائماً نفقاتك فلن تتعلم منا شطارة التوفير وحسن التدبير’.

كان هاجِسُكِ فعل الخير والمشاركة في الجمعيات النسائية وتشهد دار السعادة في دمشق على إنجازكِ الكبير مع مجموعة من السيدات الملهمات.

رحلتِ يا أمي مثل هذه الأيام أواخر 2006. وكانت الشام تعج بالنازحين الضيوف من العراق ولبنان.
بادلناهم اليوم النزوح والكآبة بل تجاوزنا محنتهم بمحنة أدهى وأعمق وأشد إيلاماً.

اليوم يا أمي، تغيرت مُدُنُ زوجكِ وأزواج أخواتكِ، دمشق تنتحب وغوطتها تبكي وتعاني، وحلب… آه يا حلب، أما بيروت فلم تعد تلك البيروت وأصبحت أقواماً وأجناساً متنافرة.

أحسن الله تعالى إليكِ بإصطفائك، فقد غادرتِ قبل الفاجعة، ووفّر عليك أن تقولي: ليتني متُّ قبل هذا وكنت نسياً منسيا.
أوشِك أن أقول بل سأقول: ليتكم بقيتم سعداء في الأرجنتين، فما كانت أمراضنا وصلت إليكم. شاء القدر أن تنجبينا. مسكينةٌ أنت يا أمي.

رحمكِ الله يا جميلة محمد مراد، ابنة البقاع … أمي.

About سامي خيمي

سامي خيمي *سفير سوريا لدي بريطانيا, دكتور مهندس بمركز الابحاث العلمية واستاذ بقسم الهندسة الاكترونية جامعة دمشق
This entry was posted in الأدب والفن. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.