من الحكمة أن يتخلوا عن شيء سيء تعلموه

راحت السكرة وجاءت الفكرة!
نعم، لقد أسكرني المشي في شوارع نيويورك المكتظة، حتى استنزف آخر ذرة طاقة مني… فعدت إلى الفندق، وتوجهت إلى غرفتي… اقتربت من الباب فرأيت صحيفة نيويورك تايمز مرمية على الأرض بانتظاري… ألقيت عليها نظرة، وإذ بقشعريرة تتسلل في كل مفاصلي… على الصفحة الأولى صورة لرجل شاب ربما في ثلاثينياته يركض وهو يحمل طفلا رضيعا معلقا بوريده كيس سيروم، وخلفه تركض امرأة مجلببة بالسواد من رأسها حتى أخمص قدميها! تمنيت عندها لو تبتلعني الأرض….
……
أقسى اللحظات ألما تلك التي تعيشها سعيدا، وأنت تراقب تعاسة الآخرين ولا تستطيع أن تفعل شيئا… ليس الألم وحده يدمر مزاجك، بل الإحساس بعقدة الذنب! ترفض سعادتك وترى فيها وبالا… وتتمنى ولو لدقائق أن تستبدلها بشيء….أي شيء يعيد للآخر بعضا من حقه المسلوب! ليس كل الناس يعيشون تلك اللحظات، وحدهم الاسفنجيون القادرون على امتصاص عذابات الآخرين يعيشون هذا الصراع بين ذروة السعادة وذروة الشقاء… هؤلاء هم المعذبون في الأرض… وهؤلاء هم ملح الأرض…
……
أكره أحيانا طبيعتي الاسفنجية…. ويزداد كرهي لها عندما أرى مواليا يرقص لأن عيون حلب صارت خضراء، غير آبه بقلبها الذي ينزف احمرارا…. وكذلك، عندما أرى معارضا يكبّر لأنه نصر الله وقطع رأسا… كلاهما أولاد عمومة… كلاهما أخوة… بل كلاهما توأم متمائل… كلاهما أضاعا البوصلة الأخلاقية وسقطا ضحية ثقافة الثلاث وسبعين فرقة والفرقة الواحدة الناجية!

لم أقرأ حرفا واحدا أو أسمع كلمة واحدة لمعارض أو لموالي، مهما تفاوتت درجة تعليمهم، ورأيت فيما كتب أو قال ما يصلح أن يكون جزءا من منظومة أخلاقية تضمد الجرح وترأب الصدع… والكون لا يرحم عندما يفقد المجتمع، أي مجتمع، بوصلته الأخلاقية!
….
فيصل القاسم ايقونة الثورة، ورجل إعلام لا أحد يستطيع أن ينكر دوره، يحرض من خلال برنامجه على حرب عصابات تساهم في تدمير الساحل، ويبالغ في تحريضه زاعما أن العلويين يشربون المتة ويمذمذون غير آبهين بما يجري… جيل بكامله من العلويين اُبيد، ولم يبق في قراهم مكان ليدفنوا موتاهم، ولكن السيد القاسم رضي الله عنه وأرضاه، قد بالغ في تقديم الولاء إلى حد تنافس عنده مع ابن تيمة! غدا ستنتصر الثورة وسيسوقونه وحريمه إلى سوق النخاسة!
……
الرئيس بشار الاسد يرد على سؤال: كيف تنام وأجساد الأطفال تتبعثر اشلاءا تحت وقع البراميل؟: أنام بشكل طبيعي وأمارس حياتي بشكل طبيعي وأقوم بالتمارين الرياضية بشكل طبيعي! (جميل يا سيادة الرئيس أن تملك قوة الأسد ولكن من القبح بمكان أن تستخدمها كما يستخدم الاسد قوته) تحارب الإرهاب؟؟؟ كيف يطاوعك ضميرك أن لا تعبر عن بعض الأسف، أن لا تظهر بعض الشفقة حيال بشر لا ناقة لهم بتلك الحرب المجنونة ولا جمل؟ اضحك علينا وقل: أشعر بالآسف إنها الآثار الجانبية للحرب! علك تخفف من حدة الحقد الذي استشرى!
لا يمكن أن يسقط بشري من هذا الموقع الذي تتبوأه بنفسه إلى هذا الحد من الاستهتار بقيمة الحياة!
مرعبة قدرتك “ياسيادة الرئيس” على الاستخفاف بحجم الكارثة التي يعيشها شعبك!
…….
المعارضون مستاؤون من التدخل الإيراني، أما التدخل السعودي فلقد حمل لهم ولليمن السعيد المن والسلوى!
الموالون مصرون أنهم سيعيدون بناء سوريا، ولن نسألهم كيف؟ لكن من حقنا أن نسألهم: وكيف ستعيدون بناء الإنسان الذي تشظى؟
الطرفان أضاعا البوصلة الأخلاقية، ولن تتوقف تلك الحرب حتى يجد طرف منهما ـ على الأقل ـ بوصلته!
……
الفلسفة الصينية الداوية تصرّ على “أن المعرفة هي أن تتعلم شيئا، والحكمة هي أن تتخلى عن شيء قبيح تعلمته” إذن، ليس شرطا أن تكون المعرفة جيدة، لكن الحكمة ـ بالتأكيد ـ جيدة… هؤلاء الموالين والمعارضين هم نتاج معرفة واحدة، نتاج ثقافة واحدة ثقافة حقنتهم جميعا بالحقد والكره والضغينة، وجردتهم من الحكمة،
وبالتالي من القدرة على أن يتخلوا عن أحقادهم!
…..
لقد سبق وقلت: عندما يصبح اللامعقول مألوفا تصبح اللامبالاة طريقة حياة.. ليس لدي وسيلة أخرى أحمي بها نفسي من وحشية هذا اللامعقول بعد أن أصبح مؤلوفا إلا أن أتجاهله…
……
دخلت غرفتي متجاهلة الصحيفة المرمية أمام بابي… لأول مرة أستطيع أن أقاوم شغف القراءة، فلقد شعرت أنني مستنزفة عاطفيا وفكريا، وبحاجة لبعض الراحة قبل أن يبدأ برنامج عملي في اليوم التالي!
*****************
الصورتان المرافقتان واحدة من سوريا والأخرى من اليمن.. لكي يرى المعارضون والموالون أنفسهم في الفروق بين الصورتين… ويعرفون أن من الحكمة أن يتخلوا عن شيء سيء تعلموه! وهل تعلموا يوما غير السيء؟؟؟؟

About وفاء سلطان

طبيبة نفس وكاتبة سورية
This entry was posted in الأدب والفن, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.