كلنا نضيّع أنفسنا وسط الزحمة

عدت لتوي من نيويورك، الساحل الشرقي لأمريكا حيث يفصله عني أكثر من ست ساعات طيران… أكره الطيران بشغف وأعشق السفر بشغف… وخلال الصراع بين ما أكره وما أعشق أجبر نفسي على رؤية الجانب المضيء لكل تجربة!
…….
السفر بالنسبة لي فرصة لأتصالح بها مع نفسي… لا يستطيع الإنسان أن يلتقي مع نفسه في زحمة الحياة، بل يجب أن يقتنص اللحظة المناسبة ليعتذر منها مؤكدا لها أنها وحدها هي الحبل السري الذي تربطه بكونه..
….
نعم كلنا نضيّع أنفسنا وسط الزحمة، ونزداد ضياعا عندما تكون الزحمة مجرد ضجيج! السفر من أكثر التجارب التي تعطيني فرصة أن أتحسس نفسي وأعيش مشاعرها بعمق… يبعدني عن المألوف من حياتي، بجميله وقبيحه، ويعطيني فرصة لأرى الحياة خارج حدود ذلك المألوف! يعطيني فرصة لأن أعيش كل لحظة بعمقها، ثم أتركها بلا أسف لأتعمشق باللحظة التي تليها..
التواجد في اللحظة الآنية يجمعك بنفسك ويسمح لك أن تصلح ما خربه ذلك الضياع بعيدا عنها، وأنت تتأرجح بين الماضي والمستقبل!
..
عندما تتواجد في اللـ “آن”، يعني أنك تتقمص نفسك الحقيقة بعيدا عن أقنعتك التي يفرضها المألوف…. أقلعت طائرتي من كالفورنيا في العاشرة مساءا، وحطت في نيويورك في السابعة صباحا.. لم أنم… كنت في تلك السويعات نفسي الحقيقة، وفي حالة من اليقظة لا يمكن أن يدخلها انسان وهي يعيش مألوفه! رحت أسترق النظر من بين الغيوم لأتعلق بضوء في بقعة ما يصعب أن أحدد جغرافيتها في هذا الظلام الدامس.. هناك شخص ما يعيش داخل بقعة ذلك الضوء… ربما في مكتب، في مشفى، في منزل… لا أعرف… لكنني في تلك الحظة موصوله كونيا به… موصولة كونيا بحبل أفكاره، بمشاعره، أو ربما بفنجان قهوة في يده.. أشعر أنني أكبر من حجمي، لأنه صار امتدادا لوجودي… أهمس وكأنه يسمعني: لا تقلق غدا سيكون أجمل، سأمدك بطاقتي وستكون شخصا آخر، كما أنا ـ الآن ـ شخصا آخر لأنني موصولة بطاقتك! أبتسم كردة فعل على ابتسامته…
تتقدم الطائرة فيضيع ذلك الضوء، وأنقل بصري إلى ضوء آخر..
…..
لقد تواصلت مع مئات الأشخاص عبر تلك الرحلة، ومن خلال الأضواء فقط! لقد تخيلت مئات القصص التي يعيشها هؤلاء الأشخاص… لا لا لا…لا أعتقد أنني تخيلتها، بل شهدتها بحذافيرها.. فالخيال لا يأخذنا إلاّ إلى الحقيقة التي لا نستطيع أن نشهدها بحواسنا الخمس! وهي أوضح الحقائق… لقد شهدت قصة رجل يتألم من عشقه… قصة أم تنتظر بفارغ الصبر عرس ابنتها… قصة أب يتحرق لوعة ليرى ابنه… قصة جدة تذكر نفسها بعلبة الشوكولا التي اشترتها لحفيدها… قصة امرأة دفنت زوجها ورفيق عمرها لتوها… قصة شاب يحلم بوظيفة تقدم عليها… قصة شابة تضع النقاط الأخيرة على مشروع تخرجها..
وهل هناك قصص بشرية خارج حدود الألم والعشق والأمل والحب والحلم والحزن والوداع؟؟؟ هذا ما يحددنا كبشر،
لكن الأضواء وحدها تساعدنا على أن نتواصل!
*********
الموظفة في قاعة الاستقبال في فندق
Loews Regency،
في أحد أكثر شوارع نيويورك ازدحاما، تخبرني: لا يوجد غرفة جاهزة في الوقت الحاضر، وعليك الانتظار! فقط عند سماع عبارتها تلك شعرت بالإرهاق، رغم أنني لم أنم ليلة بكاملها وكنت خلالها أطارد الأضواء… فالمشاعر هي ردة فعل وليست أفعالا… لكنني عدت إلى عمق اللحظة وقررت أن أعيشها.. طلبت أن أستعير من الفندق مظلة، فناولتني واحدة…
تركت حقائبي وخطوت خارج الفندق لتبتلعني الزحمة! …..
….. أو ربما لأقابل نفسي مرّة أخرى داخل لجّها….
**************
يتبع في بوست لاحق

About وفاء سلطان

طبيبة نفس وكاتبة سورية
This entry was posted in الأدب والفن. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.