دُوُنْ بانشو‎

marwanelshamiرأت دنيا ماريا أن من واجبها أن تنهض مرحبة بدون بانشو حين رأته يخطو باب قهوتها الواقعة عند مدخل البلدة بإتجاه الطريق الرئيسي ..
تقابلا قالت له تبتسم : أووه ..دون بانشو مالذي أتى بك إلينا ؟
– نصيحة الأطباء رد عليها مقتربا وكأنة يود عناقها؟؟
قالت وهي ترده بيدها برفق ضاحكة : أراك على أحسن حال ..هل حدث لك شيءٌ ما ؟
– بعض الآلام المعاودة المقلقة أسفل الصدر الأيمن يبدو أننا نسينا الزمان يا ماريا .
– دون بانشو كم مضى عليك في هذة البلدة أظن أكثر من عشرين عاماً ؟
– نعم نعم أكثر قليلاً أتذكرين حين كنا نسافر الى – باريناس – بالطائرة الصغيرة ذات الأربعة مقاعد كل شيء تغير يا ماريا ثم قال غامزاً ضاحكاً كأنه يتناسى :
– إلا ضحكتك الواسعة لا زالت كما هي وربما تغيرت أشياء لكني لم أعد أراها!!
أبانت إبتسامة خفيفة مرحة ثم قالت مجامِلةً مطمئِنة ً :لا عليك الكل يشعر بالألم ,آلات الجسد تتعب، لا تنشغل بالتفكير فيها أكثر من اللازم، أغلب المشاكل تأتي من سوء الهضم أنتم العرب تكثرون من تدخين السجائر والطعام . وبحركة خفيفة ودعته باسمة قائلة : اعتن بنفسك يا دون بانشو , ودون بانشو هو الإسم الذي رافقة في هذة البلاد ودُوُن تعني – سيد – أما بانشو فهو إسم متداول هناك لا يدري لماذا سموه به وهو يدل عموماً على الإحترام والتقدير ..
منذ وطأت قدماه هذا البلد هنا أختارها لنفسه أو أختارت له الظروف أن يقيم في بلدة صغيرة تسمى بدراسا
pedraza
، تتبع محافظة – باريناس
Barinas –
كانت عبارة عن شارعين فقط أحدهما يدخل البلدة والاخر يخرج منها تصطف على جانبيهما بيوت ومحال تجارية ذات زينة وديكورات بدائية بترتيب واتساق سكني معروف عندهم ثم يلتقي الشارعان ليشكلا معا شارعاً عريضاً طويلاً يقود الى الطريق الرئيسي المؤدي الى باريناس المدينة . تحيط بالبلدة مزارع الأبقار وأشجار كثيفة وحولها انهار صغيرة متعددة , قطعة صغيرة من أرض خضراء في أمريكا الجنوبيه ، قرية نائية معظم ساكنيها من المزارعين ومربي الابقار يعرفون بعضهم بالأب والجد .. بنى بيتا ً على طريقة بناء تلك البلاد خصص جزءاً منه محلاً تجارياً. معه جاء كذلك العديد من ابناء قريته وشكلوا تجمعاً بسيطاً يجتمعون مساءً بعد انتهاء أعمالهم للحديث واستذكار القصص، وأقاويل وحكايات يكررون معضمها كل أمسية.

تقع محافظة باريناس في وسط البلاد الى الغرب وعاصمتها هي باريناس المدينة وهي مدينة صغيرة هادئة مليئة بالخضره ممتدة بأحياء وبيوت واطئة بسيطة يحاذي خاصرتها الغربية نهر- سانتو دومينكو- يطلق على أراضي هذة المحافظة.. الجانوس (تعني السهول المنبسطة )..وهي أراض ممتدة شاسعة تفرشها حشائش السافانا طويلة الساق تغسلها أمطار الأستواء الغزيرة معظم أيام السنة، تحيط بها وتتخللها أشجار لا حصر لأنواعها وأشكالها منها أشجار ليست بالعاليه كثيراً او الكبيرة تنير قممها أزهارٌ مختلفة الألوان منها الأزرق والأبيض والأصفر ان نظرت اليها من بعيد بدت كألواح الفسيفساء الكبيرة المتضامة. وأخرى نحيلة الساق متطاولة يخرج من نهايتها ذؤابات تشبه جريد النخل الصغير تنتأ من تحت آباطها ثمار كبيرة تشبه ثمار القرع الكبيرة بنية اللون تحوي بذوراً سوداءً صغيرة كحبات المسبحة, عصارتها غليظة القوام وطيبة المذاق . وأشجار كبيرة الحجم هائلة لا يعرف لها إسم بغصون متفرعة متشابكة ترمي ثمارها صيفاً شتاءً تشاركها الحياة طوائف متنوعة من الحشرات والطيور ونباتات أخرى ذات أوراق عريضة بلون أخضر غامق تُشعرك من فرط بهائها ونضارتها كأن بها شئٌ من أرواح البشر , إضافة الى أشجار الموز والبن والبرتقال المعروفة عندنا .
الهواجس لا زالت تعصف به والأفكار تروح وتأتي خاصة بعد عودته من عند الطبيب قصير القامة والذي أجرى له تنطيراً لمعدته بآلاته القديمة ومنظارة قصير القامة أيضاً.. قال لة الطبيب شبه معتذرٍ: ان هذا المنظار هو هدية من البعثة اليابانية والتى جاءت منذ سنتين تعرض بضاعتها وتعمل دوراتٍ للاطباء على كيفية إجراء تنظير المعده وإستخدام المناظير بالتأكيد صارت هناك مناظير أحدث وأطول وأكثر مرونة لكني أؤكد لك يقيناً أن منطقة المعده العلوية والمري سليمة ليس بها أية تقرحات أو تغيرات غير عادية .
باتت ضحكاته مبتسرةً قليلة وخبا جزؤ من بريق عينيه, معلق في المجهول وكأنه بانتظار شيء ما . الكراسي والطاولات لا زالت كما هي والأرض الخشبية لم تتغير ولون الجدران الأزرق الغامق , نفس اللون وإن أعادوا صباغه مرات ومرات. بالأمس توفي التشينو – الصيني – كان ممداً على سريره نائماً دون نفس , قلائل من كانوا في جنازته تكلم- دُوُنْ بوليفر- وقال: أن التشينو كان شخصاً مهماً وعرض له صوراً في شبابة باللباس الرسمي حين كان مسؤولاً بأحد الأحزاب وقطعاً من جرائد قديمة فيها صورته وكلاماً قاله هو أوقيل عنه. أي لا زالت الدنيا كما هي زمن لا يمِل وشروق يتبعه غروب , موت وحياة متبادلين ,عشرون عاماً في هذا البلد كأنما الروح مناطة بحبل مثبت الى وتد قوي لاتخرج ولاتمرح إلا بمقدار,. تلعب داخل حدائق مسورةٍ , لا يلامس الفرح إلاسطح الجسد أما شغاف القلب فلا مكان له إلا هناك حيث خرجت الحياة أول مرة , حيث رأت العيون المغمضة سقوف الحجر وامتلأت من روائح الأرض وملابس الأم هناك حيث حبونا ودرجنا وخطونا . تذكر دون بانشو حين كان يعمل تاجراً جوالاً كيف وصل الى إحدى القرى الجبلية القريبة من نهر- لا بيهدرا – ورأى نبتة العطرة البلدية-على شبابيك أحد المنازل الريفية الصغيرة , هي كما هي عندنا باوراق متعرقة سميكة خشنة ورائحة أزلية عطرة وكلما كان يعود الى تلك المنطقة كان يمرأمام ذاك المنزل ليراها ويزورها ويسلم عليها. في طفولته كان يحب الصعود الى مضافة – العم حمد – ليشاهد نباتات العطرة المزروعة في بقايا أصص الزيت على الدرج الحجري , يلامس أعطافها ويفرك يديه بعطرها وطيبها وتفرحه أزهارها الصغيرة الزهرية اللامعة.

استوى على الكرسي وعاد الى خاطره صوت مطحنة القمح النافث المتقطع وروائح الأعشاب البرية والطريق الى قرية – المزرعه – القريبه حين كان يخرج فجراً يحمل بضائع بسيطة من بيض اشتراه أو قايضه مع نساء القرية وأصواف ودجاج بلدي ,, يسير مع حماره مسافة لاتقل عن خمسة كيلو ميترات حتى يلاقي الطريق الرئيسي ليستقل الباص القديم الى دمشق . عاد بمخيلته الى هناك وكأنة يعيش اللحظة وسار على الطريق الوعره القديمة مستمتعاً بالصمت وصفاء الفجر وخفة الهواء وشاهد كل الدروب الصغيرة المتمادية بين البيادر وامتداد الارض الصخرية الموحشة و تذكر اسماء الرسوم ومناطق الارض ووجوه اصحاب البيوت القريبة وخاصة وجه ذلك الرجل الطيب والذي كان يُودع عنده الحمارأمانة لحين عودته من دمشق . تبسم وتذكر., كان يشبة العم – شَامل – بالزي وصغر القامة. عاد الى متجره وجلس خلف الطاولة في مكانه المعروف كأنة تمثال من معدن حاول أن يغير من طريقة جلسته وأن ينهض وينادي طالباً بصوت عال إحدى عاملات المتجركما اعتاد واعتادوا عليه, لكنة عاد وجلس واهنا صامتا. بدت لة الاشياء صفراء باهتة غريبة وكأنه جاء إلى هنا لأول مره , وحيداً شاردًاً يبحث عن العزاء والنصيحة………كنت أظن ان الخيط بيننا انقطع وها هوالأن ثخينا كالحبال يسحب العقل والنفس الى تلك الربوع .قال لنفسه : لا يبدأ الإنسان بتدكر الماضي والإحساس بحريق الذكريات إلا حين يستشعرأنة يودع الحاضر ويدنوأجله وتنفذ ايامه سأذهب الى مستشفى مدينة – ميردا
merida –
فور أن ينتهي الموسم .

في الأيام التالية توسعت ذكرياته وامتدت وتفرعت فكان يسير كل يوم في القرية (البلد) يستذكر أسماء أصحاب البيوت ويقف على القناطرالحجرية العتيقة ويخطوعابراً ساحة القرية من أمام دار الشيخ الكبيرةالى دكانه القديم مسرعاً وكانة يخاف أن يكون قد اختفى أوتبدل ويصعد الى حيث – حاووز- المياه ليشهد الإحتفال العفوي المسائي لأهالي القرية لوداع النهارحيث تختلط أصوات الأولاد والكباروأصوات الحيوانات العائدة من الرعي وأصوات الأرجل المشدودة للصبايا تحمل مناشل المياه .
أختي الكبيره تذكر جيداً تفاصيل سفره ورحيلة الى بلاد ما وراء البحارأخبرتنا وقصت علينا ذلك أكثر من مره وخاصة بعد وفاته بعيداًعنا هناك ووفاة والدتي في ديارنا هنا فبين الجدثين ألاف الكيلو ميترات . طفر الدمع من عينيها مرات وصمتنا جميعا تاثراً وحزناً. تندم أختي على طريقة وداعها والدها – والدنا – لكن صغر سنها آنذاك إذ لم تكن تتجاوزالثمان سنوات ربما لم يسمح لها بذلك . قالت بعيون رطبة تحاول أن تعطي اللحظة حزنها وأثرها : جاءت السيارة وفيها بعض الركاب وصديق لوالدي سافر معه أيضا , خرج والدي من الدار العتيقة يرتدي قبعة أجنبية دائرية على طريقة البلاد التي سيسافر اليها . فأول الفاتحين العائدين ( حمد سعيد )عاد من تلك البلاد بعد سنتين واستقبله أهل البلد كلهم أومعظمهم عند مدخل القرية وكان يرتدي قبعة مثلها برهاناً أنة كان هناك وأنه أصبح مغترباً رأى بلاداً وعاشر ناساً مختلفين ؟ صعد السيارة وكنت ألعب بالكرة مع الأولاد والبنات اقتربتُ من شباك السيارة نظر الي ..كان يبدو مشوشا وقلقلا بقي يتبسم وينظر إلي وانا أضع ُرأسي مرة في الأرض وأخرى أنظرُ إليه , سارت السيارة مبتعدة وغابت في الزقاق الضيق وكنت أظنُ أن والدي سياتي بعد دقائق من الزقاق الثاني أو سياتي من غرب البلد أو أنني سأدخل البيت وسأجده هناك. لكن تلك االدقائق أمتدت وإستطالت االى ثماني عشرة سنة .

من رأى أمي قال أنها لن تنجو ذاك الصباح كانت نفساء وضعتني ليلاً وسافر والدي صباح اليوم التالي حزينة متألمة تبكي تغمس وجهها بفانيلة كانت له تستنشق رائحة عشر سنوات قضيانها معاً. ما أعجبها فيه بياضه والذي ورثة عن والدته وارتفاع جبينه وهدوء وجهه وتبسمه الدائم توفي عنة والدة وتركه مع أخويه تكفلت عمتهم برعايتهم وضمتهم الى اسرتها . أخوة الاكبر يعرف بالوسامة وفرط الاناقة أما الأصغر فلا يترك عرساً إلا ويكون أول الحاضرين وآخر المغادرين . تبسمتْ في سرها وطيف ذكرياتها معه ياتي متلاحقا : لاأدري ما الذي أعجبة فيَّ … ودكانه الصغيرة جانب المطحنة كانت ملتقى العاشقين والمحبين، وهناك شائعة قويةأنه كان على علاقة مع زوجة أحد كبار القوم لكن كما يقال يتغير الرجل حين يتزوج , تأسره الاسرة والاولاد .
لم تترك لنا الأيام شيئاً من ذكريات البلدة الريفية تكفلت الشتاءات الباردة المتلاحقة بمحوها وانقضت سنين قبل أن ننسى وتذهب عن خاطرنا الذكريات واتساع الأزقة والبوابات المفتوحة وصداقات الخرفان والجديان الصغيره. أشبعتنا أشجار التين المعمره تيناً ولعباً وركضنا على ملاعب الأراضي الخالية، وابتعد الماضي كثيراً.
تنمو العائلة في غياب الوالد كنبات قام في الظل وحيداً باهتاً ذابلاً لا ظل له , قليلة الذكريات تنتظر ساعي البريد تتسلى بحكايا عودة الغائب وهو يحمل حقائباً ثقيلةً وملابساً غريبة. ستجلس العائلة كلها مجتمعة ويسرد علينا قصص الغربة وعجائب وغرائب هاتيك البلاد …. بعد انتظار طويل وأمل لا يتحقق يتحول الغائب الى صورة فوتوغرافية معلقة على الحائط وتصبح رسائله بيضاء دون كلمات لا شيئ فيها إلا حين تحمل بين طياتها أوراقاً مالية .
بعد ثمان عشرة سنة عاد وأرسل لنا من أحد الفنادق في دمشق انة هناك وأبتهجنا جميعاً واستاجرنا سيارة خاصة لنلقاه ونعود معاً. كانت السنين قد مرت وصارت لنا أجساد الصبايا والرجال ونبتت لنا شوارب وذقون وذكريات وأحلام ..أمضى عندنا شهراً وعاد , كان واضحاً أن الافتراق قد حصل وحلم اللقاء والسعادة قد غادرنا الى الأبد وأاننا عائلة ستبقى دون أب …
غصت المحلات بالزبائن والمشترين وتناقلت البلدة اخباراً طيبة عن افراح وتجمعات ولقاءات استمرت طيلة السبعة أيام احتفالاً بالجمعة الحزينة زارت خلالها البلدة مجموعات من أماكن مختلفة عسكرت جانب النهر , والتقى الشبان والفتيات وصدحت أنغام الات النفخ العالية اللاتينية عاشت خلالها البلدة حركة تجارية نشطة وبدلت الناس ثيابها وتأنقت احتفالاً بالعام القادم الجديد وتعوض من كان موسمه رديئا وتسنى له جمع بعض المال .عاد من – ميردا – مصاحباً هدوء اليأس وطمأنينة النهاية . فداؤه لا بُرء منه وعلاجه ذو حدين يفتك حيث يُدرِيء.

على الطريق الى – بدراسا – عائداً طلب من إبنه أن ينزل زجاج السيارة وأن يتمهل السير، شاهد مزارع البرتقال على الناحية اليمنى وتذكر الأشجار يوم كانت صغيرة حديثة الغرس وتابع طيور – الغارسا
garza-
البيضاء تغالب النوم على أشرطة أسوار المزارع الممتدة على جانبي الطريق ,تمنى لو يستطيل الطريق ويصبح بلا نهاية ..بعد أيام قليلة كان نائماً دون أنفاس وحوله وقفَ شابان ينتحبان…

About مروان الشامي

أنا مروان الشامي طبيب سوري مهتم بالمدنية والتحضر أعمل خارج سوريا حاليا
This entry was posted in الأدب والفن. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.