عودة الفكري الإمبراطوري ..؟؟!!…1..

akramhawasبتاريخ 27 من حزيران/يونيو الماضي كنت ضيفا في مركز الدراسات العربية و الافريقية في القاهرة لعقد سيمينار حول المسارات المُحتملة في النظام الدولي و تاثر ذلك على التطورات المتلاحقة في الشرق الاوسط… و كان من المفروض ان اكتب عن موضوع السيمينار بمجرد عودتي من القاهرة لكن ظروف واحداث كثيرة حالت دون ذلك حيث كتبت بعض المقالات عن تلك الأحداث الانية او التطورات الخطيرة…

الان… اود العودة الى ما دارت من مناقشات حول النقاط التي تحدثت عنها في السيمينار…. و حيث ان النقاشات كانت ثرية اود في المقالة ان اقدم ملخصاً على شكل ملاحظات عن الأفكار التم تم طرحها…

اولا…. الفكرة الاساسية لليسمينار كانت ان الدولة القومية ( او الوطنية ) قد فقدت الكثير من مقوماتها الكلاسيكية و هي تعيش حالة انحسار تصاعدي و ان كان بوتيرة مختلفة طبقا لردود الفعل و محاولة اعادة القولبة و تطوير أساليب السيطرة و التحكم في إدارة المجتمعات …. لكن من الواضح ان مؤسسة الدولة القومية او الدولة الحديثة تقف امام حالتين ملتهبتين…. فهي من جهة تفقد مساحات كبيرة من سيطرتها او هيمنتها في ظل تصاعد قوة الكثير من المؤسسات و التنظيمات الخاصة…. سواء تلك التي تعتبر جزا من المنظومة المؤسساتية للدولة…. او تلك تتعاون او تتنافس مع مؤسسات الدولة….

من جهة ثانية فان صورة الدولة من حيث كونها اطاراً للهوية السياسية للمواطنة و كذلك الضمانة السياسية و الاقتصادية لحماية المواطن و توفير الأمن له…. هذه الصورة للدولة التي كانت سائدة في العقود الاخيرة بصورة خاصة و القرن الأخير بصورة عامة قد اهتزت كثيرة… و لم تعد الدولة قادرة على تأدية وظيفتها …. فالخدمات في تراجع مستمر و النظام الأمني في تصدع … و هذا ما يدعو الكثير من المواطنين الى البحث عن ملاجىء اخرى سعيا وراء الضمان الاقتصادي و الأساسي و الاجتماعي ….

حيرة المواطن …. سواء كان فقيراً ام غنياً ….و بحثه المتواصل عن الأمن و الضمان الاقتصادي و السياسي يتم استثماره بشكل كبير وواسع من قبل المؤسسات الخاصة …. و هذا يشكل أساسا مهما في نمو و تطور متنافسين اقوياء لمؤسسات الدولة…. و عندما نقول اقوياء فإننا نتحدث عن مؤسسات و تنظيمات تمتلك ذات القدرات التكنولوجية التى توفر لها إمكانات استخبارية و قانونية و تراكمات اقتصادية و و أهداف و مشاريع اجتماعية – سياسية تفوق احيانا إمكانات مؤسسات الدولة ….

هذه الحالة بدأت في الظهور بشكل كبير في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية في اغلب اللمجتمعات الغربية مستفيدة من اجواء الحرية التي وفرتها الدولة لضمان المشاركة و التوسع في برامج التنمية العمودية (النوعي) و الأفقية (الكمي)…. لكنها تطورت بشكل أوسع في الولايات المتحدة و خاصة الجانب النوعي منها بحيث ظهرت المؤسسات الضخمة الهائلة التي بدأت تستولي شيئا فشيئا على قطاعات واسعة و مهمة من القطاعات الحساسة و المؤثرة و منها قطاعات انتاج اجهزة الاستخبارات و التنصت و علوم الفضاء التي التقت في نصف الطريق مع اجهزة الحمايات الخاصة لتكون منظومات أمنية تتفوق في مكوناتها و عناصرها على إمكانيات القطاعات المماثلة لها في مؤسسات الدولة فاضطرت الدولة للتعاون معها بدلا من مواجهتها و قمعها…و هكذا وجدت تلك المنظومات الخاصة الطريق سالكاً أمامها للتطور و فرض ارادتها بحيث انها لم تعد فقط شريكا لمؤسسات الدولة في السيطرة و التنظيم بل في اتخاذ القرار و احيانا في أخذ المبادرة بعيداً… او رغماً عن… إرادة المؤسسات الرسمية…

هنا اعتقد بانه بينما ركزت الدراسات و الكتابات عن العولمة و تأثيراتها على نقطتين مهمتين و هما التطور الرأسمالي العالمي و الهيمنة الإمبريالية الجديدة على موارد و طاقات الشعوب الاخرى و تأثير ذلك على تطور نظام طبقي متجدد على مستوى الأعلم و لكن ايضا داخل المجتمعات الغربية…. فان تلك الدراسات أغفلت محورا قد يكون حاسماً في تطور النظام العالمي و هو دور تلك المؤسسات الخاصة في تطور “الدولة” و مفهومها كظاهرة تنظيمية خلفت النظام السياسي القديم و هو النظام السياسي الإمبراطوري الذي لم يحدد يوماً حدودا جغرافية و لم يلتزم بالمفهوم الديني او الاثني للأمة …

الدولة الحديثة التي ظهرت في اوروبا اثر اتفاقات ويستفاليا تحددت و التزمت بحدود جغرافية و سيادة تعترف بها الدول الاخرى بحيث ان هذه الحدود تتخذ بعداً قداسياً لا يمكن تجاوزها من قبل الجيران و لا اية قوية اخرى… بكلام اخر… ان الدولة تلتزم ايضا بحدودها و لا تحاول التجاوز على سيادة الدول الاخرى… و هذا يضع حدوداً واضحة في مستويات إدارة مصالحها الخارجية … كذلك تضع معايير مهمة في تطورها الداخلي بحيث ان دوافع و اهداف و استراتيجيات القوى السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية و خطابها السياسي و منهجيات عملها يجب ان تحافظ على توازن دقيق بين الحفاظ على الكيان الوطني و احترام سيادة الدول الاخرى …

للأسف فان هذه المحددات لم يتم احترامها الا من قبل الدول الصغيرة و بصورة خاصة الدول الفقيرة… اما الاغنياء و الأقوياء فقد عملوا بشكل دائم على اختراق هذه الاسس من خلال موجات الاستعمار الحديث و شن الحروب و اخطرها الحربين العالميتين و كذلك من خلال علاقات الهيمنة و التبعية و خلق المؤسسات الدولية السياسية منها و الاقتصادية و الثقافية و غيرها العديد من أنماط التدخل …

لكن في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية حدثت بعض التغييرات و هي انه بينما ظلت دول العالم الثالث هشة و قابلة للانقسامات فان الدول الغربية حافظت على مستويات اكثر صرامة في الحفاظ على مقومات الكيان الوطني رغم تمدد علاقاتها و مصالحها الخارجية بشكل متعاظم مع الوقت و على نسق التطور التكنولوجي و تطور منهجيات العمل و آليات الادارة و التنظيم …

الان … في العقدين الاخيرين و خاصة منذ حرب الخليج (حرب الكويت) فان ميولاً و نزعات جديدة ظهرت الى العلن و بدأت تترسخ اكثر و اكثر و تخلق ميكانيزمات جديدة في التطور الداخلي في البدان الغربية و خاصة الولايات المتحدة و منها تحول آليات اللا مركزية الإدارية الى نمط من الاستقلالية الذاتية
(autonomous)
للأقاليم و الكتل الاقتصادية و الشركات خاصة شركات انتاج التكنولوجيا الفضائية و التجسسية و صناعة السلاح و غيرها كما ذكرنا آنفاً ..

بالاضافة الى الأزمات الاقتصادية فان هناك عاملين مهمين لعبا دورا في ترسيخ هذه النزعات منها … اولا… الدور الكبير للشركات الخاصة في إدارة الحرب مع العراق و من ثم مع صربيا و تتابعهما السياسية و الاقتصادية… و ثانيا… تفكك الاتحاد السوفيتي (و كذلك يوغوسلافيا) و انتفاء نظرية العدو الخارجي المرعب التي كانت تشكل دافعا سيكولوجياً للتكتل الداخلي للحفاظ على الامن الداخلي… كما ان سقوط الاتحاد السوفيتي قد اسقط ايضا حاجز الردع المقابل …. مما فتح المجال اما الخيالات التوسعية الخارجية لتتحول الى افكار امبريونيكية عن تمدد يشبه بشكل التمدد الإمبراطوري القديم … و لكن وفق آليات جديدة تختلف عن الكلاسيكيات القديمة….

اخيرا…. ما أطلقت بعض الادبيات اليسارية من مصطلح الامبراطورية الامريكية لم تكن الا مجازا … لان أمريكا كانت تعمل وفق آلية الدولة العظمى رغم مغامراتها الاستعمارية في شرق اسيا التي بدت في لحظات تاريخية و كأنها كانت نمطا من الاستعمار الكلاسيكي… الا ان استقبالها لمقر الامم المتحدة و دورها المركزي في احداث العالم كانت تهدف الى ترسيخ صورة قياة وهيمنة الدولة الامريكية كنظام سياسي و اداري و اقتصادي في العالم …

الان… مع الميول و النزعات الجديدة قد تتفكك الولايات المتحدة… و لكن قد تظهر امبراطورية … او إمبراطوريات و هناك… و اعتقد ان سلوك روسيا و الصين و دول شرق اوسطية مثل ايران و تركيا ليست ببعيدة… هذه الإشكاليات موضوع المقالة التالية…. حبي للجميع..

About اكرم هواس

د.اكرم هواس باحث متفرغ و كاتب من مدينة مندلي في العراق... درس هندسة المساحة و عمل في المؤسسة العامة للطرق و الجسور في بغداد...قدم الى الدنمارك نهاية سنة 1985 و هنا اتجه للدراسات السياسية التي لم يستطع دخولها في العراق لاسباب سياسية....حصل على شهادة الدكتوراه في سوسيولوجيا التنمية و العلاقات الدولية من جامعة البورغ . Aalborg University . في الدنمارك سنة 2000 و عمل فيها أستاذا ثم انتقل الى جامعة كوبنهاغن Copenhagen University و بعدها عمل باحثا في العديد من الجامعات و مراكز الدراسات و البحوث في دول مختلفة منها بعض دول الشرق الأوسط ..له مؤلفات عديدة باللغات الدنماركية و الإنكليزية و العربية ... من اهم مؤلفاته - الإسلام: نهاية الثنائيات و العودة الى الفرد المطلق', 2010 - The New Alliance: Turkey and Israel, in Uluslararasi Iliskiler Dergisi, Bind 2,Oplag 5–8, STRADIGMA Yayincilik, 2005 - Pan-Africnism and Pan-Arabism: Back to The Future?, in The making of the Africa-nation: Pan-Africanism and the African Renaissance, 2003 - The Modernization of Egypt: The Intellectuals' Role in Political Projects and Ideological Discourses, 2000 - The Kurds and the New World Order, 1993 - Grøn overlevelse?: en analyse af den anden udviklings implementerings muligheder i det eksisterende system, (et.al.), 1991
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.