التنظبم اللاهوتي والعقيدة المانوية (الحلال والحرام )

pizagmanمارست الطقوس القديمة نفوذها في وصف عملية الفداء للالهة في جميع الاديان التي اتخذت لنفسها مكانا في بلاد الرافدين , والتي لم تستطع كليا ان تفلت من تأثير هذه الحضارة الطبيعية المديدة . اما فيما يتعلق بالتفاصيل فغالبا ما نجد انه من الصعب الحكم في اي من الصور والرموز الميثولوجية قد صدر عن بلاد الرافدين وأيها في التحليل النهائي ِ.

عندما اتسمت الديانة البوذية بانها ديانة رهبانية ، ذلك ان جوهر الجماعات البوذية مشكل من مجموعة الرهبان ، فبوذا ، والعقيدة والرهبان هم الثالوث القائم عليه كل شيء بينما الاعضاء العلمانيون هم عنصر مؤيد فقط وموجود في المقام الاول لتقديم الحماية والمؤازرة للرهبان ، وتختلف المتطلبات الموكولة الى الرهبان بشكل جوهري عن الاوامر المفروض على العلمانيين ان يطيعوها ، وانها مسألة ذات نمطين للدين الى درجة ما ، وهذا هو السبب الذي حدا بالجهد المبذول من اجل دراسة التطور الديني الى تصنيف الديانة البوذية الى ديانة مزدوجة ، كما جرى تطبيق التعريف ذاته على الديانة المانوية ، ويجب التسليم على اية حال بأن التنظيم متطابق الى حد ما .
وليس من المستبعد ان يكون ماني قد قلّد الديانة البوذية ، عن قصد في مظهرها التنظيمي ، وقد يكون من الافضل ايضا ان نتحدث عن تنظيم مزدوج بدلا من ان نتكلم عن ديانة مزدوجة ، لان الديانة تبقى كما هي على الرغم من ان اتباعها منقسمون الى مجموعات ، وخاضعون بالنتيجة لأنظمة منفصلة تماما ، ذلك انه كما فصل (بوذا) اتباعه الى رهبان وعلمانيين . كذلك وزع (ماني) اتباعه الى ( صدّيقين ) و( سمّاعين )، لانه جرى استخدام كل من هاتين التسيمتين في اللغتين اللتين اعتمدهما مؤسس الديانة ، ففي السريانية نجد عبارتي ( صدّيقين) و ( شامؤين ) و ( أردوان ) و ( نياشاغان ) في الفارسية المتوسطة ، أما في الغرب المسيحي فاستخدمت عبارتا ( المجتبين ) و ( السمّاعين ) منفردتين .
وتقيدت كل من الطائفتين بطرق حياتية مختلفة تماما ، كما كانت المتطلبات التي اوكلت الى كل منها مختلفة ايضا .
ويمكن تلخيص جميع علوم الاخلاق المانوية الموصوفة للمستسجيبين لمباديء ماني في التواقيع الثلاثة المشهورة التي يذكرها (أوغستين) في الفصل العاشر من كتابه ( أعمال الأراكنة) .
تضمن التوقيع الاول على نظافة الفكرة والكلمة ، والامتناع قبل كل شيء عن التفوه بأي شيء يمكن ان يبدو على انه تعبير فيه تجديف على الإله ،بالنسبة للتعاليم المانوية ، واحتفظت هذه الوصية في الوقت نفسه بالخير دون تحديد لكل مايمكن التمتع به عن طريق الفم ، وكانت الرغبة هي الامتناع عن اي شيء يمكن ان يقوي شهوات الجسد الحسية ، وبما ان اللحم ينشا عن الشيطان حسب الاعتقاد ، فقد كانت هذه الوصية واجبة بشكل خاص بصدد تناوله، ولهذاالسبب تم اعداد المانوية لكي يعيشوا على الفواكه من الحقول والبساتين وخاصة ثمار البطيخ التي كانت شاهدا على أصلهم في عالم النور بسبب لونها ونكهتها ، كما تم استحسان تناول الزيت ، واما بالنسبة للشراب ، فقد كان عصير الفواكه هو الاختيار الاول ، وفرض اجتناب تناول المقادير الكبيرة من الماء ، لانه مادة جسدية .

وجرى اعداد التوقيع الثاني ليحرم في المقام الاول ، اي عمل يمكن ان يضر بحياة النبات او الحيوان . فلم يسمح للمانويين القيام باجتثاث اي نبات او قتل اي حيوان ، وعلاوة على ذلك اشتمل هذا التوقيع عل حظر اي تصرف يعيق انتصار النور الى الحد الذي لم يكن قد شكل جزءا من الحظرين الآخرين .
وهناك حقيقة بارزة وهي ان أولئك الذين اذنبوا في حق هذه الوصية قد تكبدوا عقابا متناسبا مع عملهم الاجرامي وفق وجهة النظر المانوية ، فالانسان الذي حصد الحقل المزروع سيولد من جديد مثل سنبلة قمح ، وأما ذاك الذي قتل فأراً فسيكون فأراً في الحياة الاخرة ، وهكذا …

واخيرا فرض التوقيع الثالث على المانويين ، امتناعا تاما عن المعاشرة الجنسية بما في ذلك التخلي عن الزواج ، فقد عدت الاثارة الجنسية شيئا شريرا لانها شهوة جسدية ، وعدّ الإنجاب أسوأ بكثير لانه أخرّ إعادة تجميع ذرات النور.
ولم يتمكن سوى المجتّبون من تنفيذ هذه الوصايا بسبب تزمتهم ، وكما اشير من قبل كان المجتّبون هم الوحيدون الذين تمت تسميتهم باسم ( الصدّيقين ) ، فقد اوقفوا انفسهم على حياة موجهة نحو فداء ارواحهم فقط ، وعملوا على توحيد ذرات النور في عالم النور .
ومن ناحية اخرى أوكل الى (السمّاعين) تولي القيام بجميع انواع الاعمال المحظورة على (المجتّبين ) ، وهي التي كان في الواقع من المتعذر اجتنابها بغية المحافظة على الحياة ، وبالتالي كان من نصيب السمّاعين تزويد المجتبين بجميع انواع التغذية الضرورية .
وترافق تناول هذه الاطعمة مع اعلان صريح و واضح للبراءة من قبل المجتبين ، ويكرر الفصل العاشر من كتاب ( اعمال الاراكنة ) الصيغة المتلوة من قبل احدهم لدى استهلاك الخبز ، حيث كان يقول :
لم احصدك ولم اطحنك ولم أعجنك
ولم اضعك بالفرن
بل فعل ذلك شخص اخر وأحضرك اليّ
فأنا أتناول دونما أثم .
ثم يخاطب إثر ذلك السمّاعي الذي أحضر الخبز اليه بقوله :
( لقد صليت من أجلك )، ومن ثم يغادره .
وتسم الملاحظة الاخيرة المجتبين بسمة الكذب على الأقل ، ومن المحتمل ان هذه الملاحظة يمكن نسبتها الى النقد المسيحي ، من ناحية اخرى الى ان الشيء الممكن تصوره هو ان اعلان المجتبين بالبراءة كان ممزوجا مع التماس لمصلحة السماعين وهي نقطة طمسها عن عمد مؤلف كتاب (أعمال الاراكنة ) .
ومن الواضح أن ( السمّاعين) المانويين قد عاشوا حياة عائلية عادية ، كما تؤكد المصادر ، ويبدو انه لم يتم تحريم حتى تناول اللحم بالنسبة لهم ، ومع ذلك فقد تم التقيد بصوم يوم خاص من ايام الاسبوع وهو يوم الأحد ، كما فرض عليهم الامتناع كلياً عن العشرة الجنسية في ذلك اليوم ، ومن الملاحظ انه لم يسمح للمانويين بالزواج فحسب بل سمح لهم بالاحتفاظ بخليلات اذ كان هذا الامر اكثر قبولا لديهم ، وهو امر واضح من قصة نصيرهم السالف وعدوهم اللاحق ( أوغستين ) الذي احتفظ بخليلة خاصة به خلال ارتباطه بالمانوية ، ثم تركها في وضع حرج قبيل مدة قصيرة من اعتناقه للديانة المسيحية ، وذلك بعدما أغرته وريثة شابة وغنية بالزواج منها .
وكان على المجتبين ان يصوموا يومين في الاسبوع ، وهما يوم الاحد و الاثنين ، لانهما اليومان المقدسان بين ايام الاسبوع ، يضاف الى هذا انه وجدت مدد اكثر امتدادا للصوم المستمر خاصة خلال شهر كامل قبل العيد الديني الاكبر في العام ، وهو عيد (الوليمة المقدسة) ، وهذا شهر الصيام الذي تقدم بمثابة نمط الصوم لشهر رمضان المذكور في القرآن عند المسلمين .
وهذا أمر تبرهن النصوص على صحته تماماً ، ولقد رأينا واستحوذنا على عدد من الصيغ الاعترافية ، وكان قانون الاعتراف والتوبة هذا ذا اهمية بالغة في الحياة الدينية للمانويين لانه ساعد في المحافظة على نظام كهنوتي صارم .
وجرى تقسيم المجتبين الى اربع طبقات وهي ( في مصطلحات الايرانية الوسيطة ) ” هاموصاغ ” او القاضي ، ” آسباساغ ” او الأسقف ، ” ماهي ستاغ ” وتعني الكاهن و ” أردوان ” وتعني المجتبى ، وشكل ” النياشاغان ” مع السماعين ، الدرجات الخمس للمؤمنين ، وكان للقاضي اثنتا عشرة درجة في الكنيسة المانوية ، كما كان هناك أثنان وسبعين اسقفاً ، وثلاثمائة وستون كاهنا ، وبالطبع نجد ان الشخصيتين الاوليتين قد اخذتا من العهد الجديد ، وكان جميع اعضاء الكنيسة المانوية تحت اشراف خليفة ماني وكان يعرف باسم ” أرشغوس ” وباسم ” سردار” في اللغة الفرثية ، وباسم ” سارات ” في اللغة الفارسية الوسيطة .
وارتدى المجتبون مع ممثلي الدرجات العالية أثواباً بيضاء مع أغطية رأسية ، بينما احتفظ السماعون بلباسهم العادي .
وسننتقل بالموضوع القادم الى التعميد المانوي …

About عضيد جواد الخميسي

كاتب عراقي
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.