ج 3 / كيف أصبحت نظرية التطوّر حقيقة عِلمية راسخة؟ (قراءة في كتاب أعظم عَرض على وجه الأرض / د.ريتشارد داوكنز)

رعد الحافظ

رعد الحافظ

ج 3 / كيف أصبحت نظرية التطوّر حقيقة عِلمية راسخة؟ (قراءة في كتاب أعظم عَرض على وجه الأرض / د.ريتشارد داوكنز)

مقدمة :حسب مؤلف هذا الكتاب العِلمي الرصين ,د. ريتشارد داوكنز
هناك عدّة تعريفات (للحقيقة) في قاموس أوكسفورد ,لكن الذي يهمّنا هو التعريف التالي :الحقيقة شيء قد حدثَ فعلاً ,أو هو الحالة حقّاً!
شيء يُعلَم أنّ له هذه الصفة!
من هنا فإنّ الحقيقة تُعرف بالملاحظة الفعليّة أو الشهادة الموثوق بها .
يعني غير ما هو مجرد إستنتاج فقط أو حَدَس أو تخيّل!
لكن مؤلف هذا الكتاب المرموق يعترض على فكرة (الشهادة الموثوق بها) لتأكيد حقيقة ما ,و(قد) يفضّل عليها أحياناً ,الإستدلال العِلمي السليم!
فما الفرق بين الإثنين ؟
***
ص 11 / كم مرّة رأيتَ الغوريلا ؟
يقول د.ريتشارد داوكنز :
لقد أعطتنا تجارب عِلم النفس بعض البراهين المُذهِلة التي ينبغي أن تُقلِق أيّ قاضٍ ميّال لتقدير وزن كبير لدليل (شهود العيان)!
مثال مشهور قد أعدّهُ البروفيسور
Daniel J. Simons
/ جامعة إلينوي
تمّ تصوير ست شباب واقفين في حلقة يتقاذفون كرتي سلّة مع بعضهم لمدّة 25 دقيقة .ونحنُ (خاضعين للتجربة) شاهدنا الفيلم !
تنقّلَ اللاعبون ذهاباً وإياباً في الحلقة وغيّروا أماكنهم بينما كانوا يمرّرون الكرات ,لذا فالمنظر كان مُعقّداً جداً !
قبل مشاهدتنا الفيلم اُخبرنا بمهمّة نقوم بها لأجل إختبار قوّة ملاحظتنا!
كان علينا إحصاء الرقم الكلي لمرّات تمرير الكُرتين من شخص الى آخر!
في نهاية التجربة (سُجلّت الإحصاءات في حينها) ,كان نادراً مَنْ عرفَ من المشاهدين أنّ التجربة الحقيقية ليست هذه التي رَكزّنا عليها!
بعد مشاهدة الفيلم وجمع الإحصاءات ,ألقى القائم بالتجربة مفاجأته :
كم مرّة رأيتَ الغوريلا ؟
أغلب المُشاهدين بدوا حائرين ! لذا قاموا بإعادة تشغيل الفيلم ,إنّما هذه المرّة اُخبرنا بأن نُشاهد بإسترخاء دون محاولة إحصاء أيّ شيء!
على نحوٍ مذهل فإنّه خلال تسع دقائق من الفيلم تجوّل رجل في زي گوريلا بلا أدنى مبالاة ,وسط حلقة اللاعبين!
متوّقفاً أمام عين الكاميرا ,ضارباً صدره كما لو كان في إستهانة مُعادية لدليل (شهود العيان)!
ثمّ إنسحبَ من الحلقة بنفس اللامبالاة وطريقة التجوّل (إنظر صورة 8)
نعم لقد كان هناك على مرآى تام خلال تسع دقائق كاملة ,أكثر من ثلث وقت الفيلم كان موجوداً ,ورغم ذلك أغلب شهود العيان لم يروه قط!
لكانوا أقسموا قسماً في محكمةٍ ,أنّه لم يكن هناك رجل في زيّ گوريلا!
لكانوا أقسموا أيضاً أنّهم شاهدوا بأكثر من تركيز حاد الـ 25 دقيقة بدّقة لأنّهم كانوا يحصون عدد مرّات تمرير الكرتين !
لقد قيمَ بالكثير من التجارب لنفس الفكرة ,وكانت النتائج مماثلة!
من هنا نستنتج أنّ شهادة شهود العيان والملاحظة ليست موثوقة بالكامل!
وتلك (عدم الجدارة بالثقة) هي بالضبط ما تستغلهُ مسارح الحُواة بتقنياتهم المدروسة للإلهاء !
***
ص 12 / الملاحظة المُباشرة أم الإستدلال القوي ؟
أنا نفسي (يقول د. ريتشارد داوكنز) كنتُ مذهولاً حينما أخفقتُ في رؤية (غوريلا) البروفيسور سايمون .وكنتُ أكثر حزناً (لكن حمكةً أيضاً) عندما شاهدتُ الشريط ثانيةً!
غالباً لن اُغرى مرّة أخرى بإعطاء (شهادة شهود العيان) تفضيلاً آليّاً
على الإستدلال العِلمي غير المباشر!
لربّما يجب أن يُرى فيلم (الغوريلا) أو ما يشابهه لكلّ المُحلفين والقضاة قبل أن يتخذوا قراراتهم ,إذ ربّما سيتراجعون عن مراعاة آرائهم!
بإعتراف الجميع فإنّ (الإستدلال) يحتاج أن يقوم على الملاحظة بحواسنا!
على سبيل المثال ,نستخدم عيوننا لملاحظة مُخرَج الطِباعة من آلة قراءة تتابعات الحَمض النووي
D.N.A.
,أو من المُسارع الذرّي الضخم
The Large Hadron Collider
لكن على خِلاف كلّ حَدَس ,فإنّ المُلاحظة المباشرة لحدَث مزعوم (قتل مثلاً) ,ليس بالضرورة أكثر وثوقيّة من المُلاحظة (غير المباشرة) لنتائج معيّنة (كالحَمض النووي في لطخةِ دم) !
إذا لم يكن هذا الكلام مفهوماً (وهو كذلك) ,سأعيد صياغته ثانيةً!
يعني إذا شهدَ شخص بأنّه رأى (فُلان) يقوم بعملية القتل ثمّ أثبتت الفحوص الطبيّة أنّ الحَمض النووي للقاتل يعود لشخص آخر مختلف كليّاً .
فالملاحظة المباشرة (المشاهدة هنا) ,ليست أقوى من الملاحظة غير المُباشرة (هنا هي تحليل الـ
DNA)
.لأنّ هذه الاخيرة مزوّدة بآليّة إستدلال مبنيّة على نحوٍ قوي!
معناها الخطأ في حالة الجريمة أعلاه ,مُرجّح أكثر أن ينتج عن شهادة شهود العيان ,وليس عن تحليل الحَمض النووي!
***
ص 13 / جدوى الإستدلال العِلمي !

كون الشيء بالشيء يُذكر ,هنا على نحوٍ مؤلم قائمة طويلة من الناس الذين أدانتهم شهادة شهود العيان ,لكنّهم بُرّؤوا فيما بعد واُفرِجَ عنهم!
حصل ذلك أحياناً بعد عدّة سنوات ,بسبب دليل جديد من الحَمض النووي!
في ولاية تكساس الأمريكيّة وحدها هناك 35 شخصاً (ممن ظلّوا أحياء) بُرّؤوا مذ صار الحَمض النووي دليلاً مقبولاً في القضاء!
مُسلّمينَ بالحيويّة التي تُنفِّذ بها ولاية تكساس عقوبة الإعدام ,خلال سنواته الست كمحافظ وقّع
Grorge W Bush
مُذكرة إعدام مرّة كلّ إسبوعين!
علينا أن نفترض أنّ عدداً لابأس به من المعدومين كانوا سيبرّؤون لو كان دليل الحَمض النووي متوّفر في الوقت المُناسِب !
إنتهى الجزء الثالث!
***
الخلاصة :
أرأيتم أحبتي إحدى فوائد العلوم في حياتنا ؟
العِلم والبحث العِلمي والتفكير بطريقة عِلميّة غالباً ستوصلنا الى القاتل الحقيقي في جريمةٍ ما حتى عند توّفر الملاحظة الفعلية (أو شهود العيان).
فمهما كانت مصداقية الشاهد كبيرة ,وصحتهِ وحواسه جيّدة ,لكن تأثّره بالظروف المحيطة وبمشاعره الإنسانية الخاصة (حبّ ,كره ,خوف ,خجل ,شكّ ,..الخ) ممكن أن يأتي بشهادة خاطئة ,قد يذهب ضحيتها بريء ,أو ينجو بفعلتهِ قاتل!
يقول مؤلّف هذا الكتاب العِلمي الرائع د.ريتشارد داوكنز :
سيأخذ هذا الكتاب الإستدلال مأخذاً جدّياً !
ليس الإستدلال المَحضْ ,إنّما الإستدلال العِلمي السَليم !
وسوف اُري القاريء القوّة غير القابلة للدَحض للإستدلال العِلمي ,على أنّ التطوّر حقيقة !!!
لأنّه بمنتهى الصراحة والوضوح ,فإنّ أغلب التغيّرات التطوّرية ,هي غير مرئية أو متوّفرة لملاحظة شهود العيان المُباشرة .فمعظمها حدث قبل ميلادنا.وعلى كلٍ هي بطيئة جداً لتُرى في حياة شخص بعينهِ!
هذا ينطبق أيضاً على قصة التباعد القديم و(المُستمر) بين قارتي أفريقيا وأمريكا الجنوبية ,أو مايسمى الإنجراف القاري (سيأتي ذكره في الفصل التاسع) الذي لم نكن لنلاحظه وقت حدوثه(حيث لم نكن موجودين أصلاً).
بينما اليوم يتّم تسجيله (بدّقة) بآلات ومبتكرات العِلم الحديث.
نعم الإنجراف القاري البطيء لأمريكا الجنوبية وأفريقيا ,أصبح حقيقة عِلمية راسخة بالمعنى اللغوي المُعتاد لكلمة (حقيقة)!
حقيقة مثلها مثل حقيقة التطوّر والإنتقاء الطبيعي وتشابه أسلافنا مع بعض القوارض!
كلّ مانقوم به (كعلماء) من عمل بهذا الخصوص ,يشبه عمل المُحققين الذين وصلوا مسرح الجريمة بعد حدوثها ,وهروب القاتل وإخفاء الأدلة!

تحياتي لكم
رعد الحافظ
27 يونيو 2016

About رعد الحافظ

محاسب وكاتب عراقي ليبرالي من مواليد 1957 أعيش في السويد منذُ عام 2001 و عملتُ في مجالات مختلفة لي أكثر من 400 مقال عن أوضاع بلداننا البائسة أعرض وأناقش وأنقد فيها سلبياتنا الإجتماعية والنفسية والدينية والسياسية وكلّ أنواع السلبيات والتناقضات في شخصية العربي والمسلم في محاولة مخلصة للنهوض عبر مواجهة النفس , بدل الأوهام و الخيال .. وطمر الروؤس في الرمال !
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.