هذيك الأيّام

صورة قديمة للقدس - بين 1800 الى 1900 م

صورة قديمة للقدس – بين 1800 الى 1900 م

سليمان جبران: .. ماذا سيقولون في القرية؟!
لست من يؤمن بالقضاء والقدر. وأنّ كلّ ما تراه العين مكتوب مُسْبقا على الجبين. مع ذلك تسوق الأيّام المرء أحيانا إلى أصقاع لم يقصدها، ومواقعَ لم تخطر له على بال. لا أحدَ منّا يعرف ما سيأتي به الغد. أنا مثلا كنت كلّ سنة أقدّم طلب انتقال إلى إحدى مدارس حيفا أو الكرمل لدخول الجامعة، فلا يتحقّق لي ذلك. لكنْ خدمتني الظروف أخيرا، ولم أتحمّل جميل أحد، فانتقلت إلى العمل معلّما في دالية الكرمل.
خدمتني المصاقَبات – اجتماع الشروط المواتية يعني- فانتقلت من حرفيش إلى التعليم في دالية الكرمل، والالتحاق بجامعة حيفا، قبل أن تغدو جامعة مستقلّة. “المعهد الأكاديمي” كان اسمها يومها، وكانت تابعة للجامعة العبريّة. بل كان معظم المحاضرين فيها يأتونها من القدس. يُلقون على طلابها محاضراتهم ثمّ يعودون في اليوم ذاته غالبا.
في آخر السنة الثانية، بعد ظهور نتائج الامتحانات كلّها، استدعاني رئيس قسم اللغة العربيّة إلى غرفته. لا بدّ لي هنا من القول إنّي لم أكن في الجامعة طالبا عاديّا. جئت الجامعة بعد سنوات من العمل في المدارس، وليالٍ كثيرة وطويلة من التحضير الجادّ لموادّ التعليم، والقراءة في المراجع، وفي كتب الأدب الكلاسيكي والحديث. بل كنت أطمح إلى أن أكون شاعرا. لم تكن موادّ التدريس، في اللغة بوجه خاصّ، غريبة عليّ. ولم أكن أتأخر عن أداء ما يُطلب منّا إذا كان جديدا عليّ. لذا، كانت علاماتي، في اللغة بالذات كاملة كلها. ولا غبرة يعني.
الأستاذ المذكور إسرائيليّ الجنسيّة، لكنّه كان ألمانيّا تماما: اسما وفكرا ومسلكا. لا يعرف من الحياة خارج الجامعة شيئا، ولا من الخطوط غيرَ الخطّ المستقيم. جلست إليه في غرفته الصغيرة، فأخبرني أنّه يرغب في إلحاقي مُعيدا بقسم اللغة العربيّة في جامعة حيفا. فاجأني الرجل باقتراحه، لكنّي أجبته دونما تردّد أنّ عرْضه المذكور يسرّني طبعا، وأرجو أن أكون على قدْر توقّعاته. غاية طموحي كانت أن أعمل معلّما للغة العربيّة في مدرسة ثانويّة، قلت للدكتور الألماني.عرْضك مقبول طبعا، وأنا لك شاكر على مقترحك المذكور من كلّ قلبي. أرجو أن أكون على قدْر توقّعاتك.
بعد أيّام التقيت بالأستاذ الألماني، فبلّغني أنّهم في الجامعة لم يرضَوْا بتعيين طالب بعد السنة الثانية مُعيدا في القسم. تنهي السنة الثالثة أوّلا، ثمّ تبدأ العمل معيدا كما اتّفقنا، قال لي بثقة وهدوء.
لم أشكّ في حرف من كلام الدكتور. عرفت الرجل لا يقول غيرَ ما يُضمر، فلماذا أشكّ في أقواله، فأفتّش عن أسباب خفيّة لهذا التأجيل. ننتظر سنة كما اقترح الأستاذ الألماني علينا. لعلّ في التأجيل نيل المأمول. قد يكون التأجيل المقترح لصالحنا آخر الأمر. ثمّ إنّ الدكتور الألماني لا يقول شيئا ويضمر غيره. الشكوك في أقواله ومواقفه عيب، وقلّة أدب أيضا !
في آخر السنة الثالثة، بعد امتحانات السنة والامتحانات النهائية في العربيّة، كانت نتائجي خيرا مما توقّعت . جرتِ الرياح بما اشتهتِ السفن، بل خيرا مما اشتهتْ. وصلنا آخر محطّة، قلت في نفسي، والحظ خدمَنا هذه المرّة. لم يبقَ عليك سوى مقابلة الدكتور الألماني، لتعمل يا ابن البقيعة محاضرا في الجامعة !
لكنّ الدكتور الألماني لم يستدعِني إليه، ولم أستطعْ سؤاله وجها لوجه. كانت جامعة حيفا يومها بناية واحدة طويلة لا غير. “البناية المتعدّدة الأغراض” ، أطلقوا عليها. فكان الأستاذ إذا لمحني من بعيد في الممرّ الطويل يغيّر طريقه، فيختفي في إحدى الغرف الجانبيّة. فهمت أنّه يخجل من ملاقاتي، وقد وعدني بما لم يقدر على الوفاء به.
رأيت الدكتور الألماني يتهرّب من ملاقاتي والحديث إليّ. لا بدّ أنّ الأكمة تُخفي وراءها ما يخجل الأستاذ من البوح به إليّ. أكتبُ إليه رسالة، قلت في نفسي، فيُجيبني بما عنده. لن يخجل من الورق الأبيض إذا كتب لي مكنونات صدره. هكذا كتبت إليه رسالة أسأله فيها عمّا كان بيننا قبل سنة منِ اتّفاق. كان ردّه سريعا ومقتضبا. قال في رسالته إنّ الجامعة لا ترغب هذه السنة، لأسباب مادّيّة، في تعيينات جديدة. نصحني أيضا بالعمل في المدرسة الثانويّة التي كنت حدّثته عنها في جلستنا السابقة.
لكنْ لماذا يغيّرالألماني طريقه لئلا نلتقي مواجهةً، إذا كان كلّ شيء كما ذكره لي ؟ ليس له من ذنب، ولا هو أساء إليّ. لعب الفار في عبّي. لكنّي لم أشكّ في الرواية التي كتبها إليّ. لا مجال إلى الشكّ في موقف الرجل وصدقه.
الشكوك كلّها والهواجس انجلتْ بعد أسابيع، ومن جهة لم أتوقّعْها قطّ. انضمّ في تلك السنة إلى التدريس في حيفا دكتور فرنسي أيضا. إسرائيلي هو أيضا، لكنّه أنهى دراسته في فرنسا، وعاد إلينا حاملا خبرة واسعة في الأدب الكلاسيكي، واستقامة أكاديميّة فرنسيّة خالصة. لم يجد الدكتور الألماني من يبوح إليه بما يُثقل صدره سوى ذلك الدكتور الشابّ، سليلِ الفكر الفرنسي الحرّ. أفضى إليه بكلّ ما جرى له مع سلطات الجامعة، وأراح ضميره المثقل بالأوزار.
ضمّ الدكتور الفرنسي حكايتي، كما سمعها من رئيس قسم العربيّة في حيفا، إلى حكايتين أخريين مشابهتين، لطالبين عربيين، ونشر ما جمعه في تقرير مُغفل، دونما توقيع يعني، في أسبوعيّة هعولام هزه/ هذا العالم المناهضة للسلطة، بعنوان: “جامعة يحكمها الشين بيت”. هناك فقط تعرّفنا حكايتنا بالتفصيل، فأدركنا الدلالة الخفيّة لسلوك الألماني، رئيس القسم. تماما مثل القصص البوليسيّة: لا تتكشف ملابسات أحداثها الأولى إلا حين نبلغ فصلها الأخير !
تبيّن لنا، من التقرير المذكور، أنّ الدكتور الألماني لم يقنع بالردّ الرسمي. قابل رئيس الجامعة الإداري، وكان شخصيّةً مبائيّة معروفة. بعد نقاش مطوّل أبلغه رئيس الجامعة أنّه لا يعرف الطالبَ المذكور، وأنّ المعارضة في الواقع مصدرُها المخابرات بالذات. ذهب فقابل رئيس الشين بيت في الشمال أيضا. كيف تعارضون تعيين المذكور مُعيدا في معهد أكاديمي، وهو معلّم في مدرسة ابتدائيّة تابعة لوزارة التربية، سأل الدكتور الألماني متحدّيا. صحيح، أجاب رئيس الشين بيت في الشمال. ليس للمذكور نشاط سياسي يُذكر. لكنّ أهله في القرية شيوعيّون كلّهم. ماذا سيقولون هناك في القرية إذا عمل المذكور في الجامعة؟
لست من يؤمن بالقضاء والقدر، كما أسلفت. لكن من يدري ؟ أوصدوا في وجهنا أبواب الجامعة في حيفا، فانفتحت أمامنا أبواب تل أبيب، دونما جهد منّا أو معرفة. لكنْ تلك حكاية أخرى، لإطار آخر.
لست من يؤمن بالقضاء والقدر. لكن من يدري ؟!

ِ

About سليمان جبران

بروفسور سليمان جبران، رئيس سابق لكرسي اللغة العربية في جامعة تل ابيب متقاعد، باحث وناقد ، ولد في قرية البقيعة ويقيم حاليا في حيفا. صدر للبروفسور سليمان جبران: - المبنى واللغة في شعر عبد الوهاب البياتي، دار الأسوار، عكا، 1998. - كتاب الفارياق: مبناه وأسلوبه وسخريته، جامعة تل- أبيب، 1991. طبعة ثانية : دار قضايا فكرية، القاهرة، 1993. - صلّ الفلا ، دراسة في سيرة الجواهري وشعره، جامعة حيفا، 1994. طبعة ثانية: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، عمان وبيروت، 2003. - نقدات أدبية، جامعة تل أبيب، 2006. طبعة ثانية : دار الفكر، عمان، 2007. - نظرة جديدة على الشعر الفلسطيني في عهد الانتداب، جامعة حيفا، 2006. طبعة ثانية : مكتبة مدبولي، القاهرة، 2007. - صغار لكن... ، مجموعة قصائد للصغار، حيفا، 1996. - مقالات أخرى كثيرة في النقد الأدبي واللغة.
This entry was posted in الأدب والفن. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.