بعد عشرين عاماً ..؟

جدارية من نتاج بول كلي

جدارية من نتاج بول كلي

لما بلغ الثمانين من العمر كتب ” جيته ” الأديب العالمي في يومياته العبارة التالية:
.
التغيير أو ما اصطلح على تسميته في الفلسفة الماركسية ” الديالكتيك ” هو ما نثق به كقانون للحياة وهو الذي يحملنا على التفاؤل بمستقبل البشر.والتغيير هو سر تقدم وتطور الإنسان .
حتى العقائد الدينية أكدت على أهمية التغيير وفي القرآن قوله ” إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم “. وهي من ” الآيات ” التي تحمل روحاً مسيحانية. بيد أن التغيير دائماً يتجه نحو الأمام ، ولا يوجد تغيير نحو الماضي ، فالماضي لا رجعة له .
في العشرين عاماً الماضية حدث تغيير كبير في أولويات النضال السياسي . وانتقل اهتمام مختلف الحركات السياسية من مفهوم الثورة بمعناها الانقلابي الى مفهوم الإصلاح السياسي للنظام . خاصة في أعقاب تفكك بنية كتلة البلدان الاشتراكية.والتحولات الإقتصادية في الصين ” الشيوعية “.
ويبدو لي أننا في مرحلة تجاوزت ذهنياً فكرة الثورة بمعناها الكلاسيكي القديم . لكل عصر سمته ولغته المعبرة عنه. رغم ان المفكر الايطالي ” انطونيو غرا مشي ” تنبأ بذلك مبكراً لكن يبدو الأن أن حصاد السنين والاتجاهات الفكرية الراهنة ، تجاوزت الى حد بعيد ذلك الإعلان القاطع المعروف في الأدبيات الإعلامية القديمة ، ان هذا العصر هو عصر انتقال البشرية من الرأسمالية الى الاشتراكية ..الخ وهكذا بعد عدة سنوات قد لا تتجاوز العشرين عاماً القادمة ، ستبدو مفاهيمنا ومعارفنا ، وحتى قناعاتنا الراهنة في نظر الأجيال القادمة أفكار صبيانية ، وربما مضحكة مثل خرافات وأساطير العقائد الفضائية .
عشرون عاماً..! وهي عبارة عن جيلين لأن سرعة تطور العلوم والتكنولوجيا الكاسح وانعكاساته على المجالات الإجتماعية والاقتصادية والحريات العامة ، تترك أثرا كبيراً في الوعي العقلاني المتزايد لدى الناس والمستند الى فكرة الحرية السياسية والديمقراطية والعلم .
لكن والاهم هو تطور دور المعلومة والفكرة ووسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي بمختلف أشكالها. وانتقال المجتمعات من عصر المعلومة المذاعة الى عصر الصورة. وعلى ما يبدو أن عالمنا الأن دخل مستوى جديد من تطور المعرفة الإنسانية . ترى هل نحن على أبواب ” مجتمع معلوماتي ” على رأي عدد من الباحثين اليابانيين..؟ بأن فضاءنا الكوني يتألف من ثلاثة عناصر أساسية هي ” المادة، والطاقة، والمعلومات “..!؟ وبطبيعة الحال التكنولوجيا المتطورة.
خلال فترة وجودي في المستشفى مؤخراً قال أحد الأطباء المشرفين على علاجي..
” حسناً لقد جرى شحن ” البطارية ” الخاصة التي تزود قلبك بالطاقة وتحافظ على مستوى آداه وصلاحيتها لمدة عام كامل ، بعدها سنجرى فحصاً أخر … أما الأن فالأمور تحت السيطرة “.
هذا جزء من التغيير الذي حققه الإنسان، بفضل العلم والمعلومة والمثابرة واحترام قيمة الإنسان. قبل سنوات لم يكن بالإمكان إجراء عمليات من هذا النوع . بل أن في عالمنا العربي، لا زال هناك من يعالج بالرقى والتعاويذ، وقراءة الفنجان ؟؟.فيما العالم انتقل الى ثقافة الصورة الحية منذ سنوات .
وبتقديري فإن امتلاك المعرفة والمعلومات واستخدامها في المنافسة الإقتصادية والسياسية وفي التكنولوجيا ستلعب دوراً حاسما في نتائج الصراع في عالم تسوده تغييرات وتبدلات عميقة تمس مختلف الأسس البنيوية للمعارف السابقة . وعلى ما يبدو من وجهة نظري ان السلطة الفعلية في المجتمعات المعاصرة، تنتقل تدريجياً الى أيدي العلماء والمفكرين وأجهزة الأتمتة ذاتية الضبط والحركة .طبعاً قد يعتبر البعض أن هذه الأفكار تجسد في جوهرها أيديولوجية الرأسمالية المنظمة ..؟
ربما..؟! لكني في الجوهر مع تعبير ” هيغل ” القائل : أنا هو أنا :
تعبير أنا ليس كمصطلح نرجسي بل أنا التي تجسد روح الفرد وتحافظ على إنسانيته، وستعري كل الوعي الزائف بفكرة الأحزاب والجماعات السياسية. وكافة الأشكال التي تلغي الفرد لصالح الجماعة، أو تلك المؤيدة لفكرة العنف والتعصب الديني. سيتضاءل دور العنف في مقابل الدعوة لإرساء أساس اجتماعي عقلاني لحل المشكلات الإجتماعية . ورفض المنطق الطبقي أو ” الديني ” في حسم الخلاف.
وفي أوربا نحن نلمس بدايات حقيقية لقبول فكرة التعايش الأيديولوجي بين مختلف التيارات السياسية ذات التوجهات المتباينة. لصالح إرساء أسس مشروعة لمستقبل مشترك بين مختلف شرائح المجتمعات الأوربية، قائم على فكرة احترام حقوق المواطن بشكل عام.
والتأكيد على العلاقة المتبادلة بين فكرة الحرية والديمقراطية، فالحرية هي نتاج للديمقراطية والديمقراطية بدورها هي نتاج لفكرة الحرية. وعلى أهمية التحرير الذاتي من أوهام الماضي والنرجسية كأساس موضوعي لتفاعل الإنسان مع المستقبل. ومن اجل عالماً متحرراًً من كافة أشكال الخوف والإكراه والقهر. فلا توجد حرية أقل أو حرية أكثر.

About سيمون خوري

سيمون خوري مواليد العام 1947 عكا فلسطين التحصيل العلمي فلسفة وعلم الأديان المقارن. عمل بالصحافة اللبنانية والعربية منذ العام 1971 إضافة الى مقالات منشورة في الصحافة اليونانيةوالألبانية والرومانية للكاتب مجموعة قصص قصيرة منشورة في أثينا عن دار سوبرس بعنوان قمر على شفاه مارياإضافة الى ثلاث كتب أخرى ومسرحيةستعرض في الموسم القادم في أثينا. عضو مؤسس لأول هيئة إدارية لإتحاد الكتاب والصحافيين الفلسطينيين فرع لبنان ، عضو إتحاد الصحافيين العرب منذ العام 1984. وممثل فدرالية الصحافيين العرب في اليونان، وسكرتير تجمع الصحافيين المهاجرين. عضو الهيئة الإدارية للجالية الفلسطينيةفي اليونان .
This entry was posted in الأدب والفن. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.