انتهت حرية الثقافة السياسية لدى «البعث»، بغدر الجيل الحزبي الثاني والثالث، بمثقفي النخبة في الجيل الأول، وإقصائهم عن السلطة والسياسة. وعندما طلب الناشر (عزمي بشارة) من «صديقه» فاروق الشرع أن يكتب مذكراته، أصر وزير الجيل الثاني على أن «يستأذن» قيادة بشار للجيل الثالث!
نحن، إذن، في «الرواية المفقودة» أمام مذكرات صدرت تحت الرقابة الرسمية. مع ذلك يصر الناشر في مقدمة الكتاب، على أن الشرع من أهم وزراء الخارجية العرب، «إن لم يكن أهمهم على الإطلاق»!
ومن حسن حظ الناشر أنه لم يذكر اسمه، ربما لكي لا يحاسبه مثقفو السياسة، عما إذا كان الشرع حقا أكثر أهمية من وزراء خارجية كعمرو موسى. ومحمود رياض. وعبد العزيز بوتفليقة. أو أن ما كتبه الشرع تحت الرقابة يطغى، مثلا، على مذكرات أكرم الحوراني (من الجيل الحزبي الأول) التي كانت أهم مذكرات سياسية سورية أو عربية، في النصف الثاني من القرن العشرين. فقد كتبت والحوراني يتمتع بحرية تامة، خارج الأسوار السياسية والحزبية.
ما زالت دور النشر العربية تترك للمؤلف أن يكتب على هواه (على عماها). فهي لا تملك المحررين الخبراء في كتابة المذكرات، كما لدى دور النشر الغربية. فتأتي المذكرات جافة. خالية من المعلومات المنشودة، بما في ذلك مذكرات الشرع الذي روى «الحقائق» كما رآها هو. فكان دائما على «حق». والآخرون متهمون دائما عنده بـ«الكذب. الخداع. التآمر. الخيانة» حسب المنطق الحزبي في دولة بوليسية.
ومن الطرافة الاعتراف بأني عرفت وزراء الخارجية الثلاثة، بالمصادفة أو بحكم المهنة. كنت في المدرسة الابتدائية أرى «زميلي» التلميذ الصغير وليد المعلم وهو يتدرب على عمله المقبل كوزير للخارجية. فقد كان يتسلى بصبر عجيب، بهز قدميه القصيرتين وهو جالس بأدب خجول على مقعده الخشبي في الفصل. وأخطأت فدخلت كلية شكسبير الإنجليزية في الجامعة. فلفت نظري زميل هادئ. دائم العزلة عن الزملاء. ولم أعرف أنه «مشروع الوزير» فاروق الشرع، إلا عندما رسمه بعد ثلاثين سنة الرئيس الأسد وزير دولة ثم وزير خارجية. ثم جلست هنا في باريس ساعات طويلة مع «غريمه». وسابقه. ونائب رئيسه عبد الحليم خدام. ولعل قارئ «الشرق الأوسط» يتذكر الحلقات الثلاث التي كتبتها عن اللقاء.
قرأت مذكرات الشرع، ذهابا، من أول صفحة إلى الأخيرة (495). وأعدت قراءتها من الأخيرة إلى الأولى. أحزنني هذا الرجل. فهو ما زال يلوك في الذهاب والإياب أفكار رئيسه الراحل. لم يغادرها كما فعل «صديقه» عزمي بشارة الذي نقل «كاتيوشا» النضال من الكتف السوري. إلى الكتف القطري.
يبدو أن الشرع في غاية الأمان، لكونه «وديعة» الأب لدى الابن. فلو غادر القفص، فسيلاحقه أهالي عشرات ألوف القتلى من عشيرته، في سهل حوران، لتمجيده الأب. ولصمته عن الابن. كما أنهم لا يوافقونه على تحيزه الواضح لإيران. ولعدائه المستتر للسعودية.
يعترف الشرع بنشوء «مراكز القوى» في النظام والصراع بينها. وهو أمر طبيعي في دولة فاشية مغلقة. لكنه يستثني نفسه منها. الواقع أنه كان هو أيضا مركز قوة. وكان صراعه المستمر مع عبد الحليم خدام دليلا على ذلك، بسبب الغيرة. واختلاف الشخصية. وأسلوب العمل. ويقول إن خدام كان يطرح نفسه بنبرة راديكالية ضد «المرجعية العربية»، مناديا بمنح الروس قواعد في سوريا. ثم يتهمه بخطف سبحة الرئيس اليمني علي عبد الله صالح، خلال زيارة الأسد لليمن، وقدر ثمن حباتها بألوف الدولارات.
ولا ينتبه الشرع، في مذكراته، إلى أن رئيسه الأسد كان يشجع مراكز القوى على الصراع الشخصي والمصلحي بينها. فكان يسخر من خدام أمام الشرع. فيصفه بـ«شيخ عين التينة» صاحب الأسلوب «الفج». وربما كان يسخر من الشرع أمام خدام. وفي اعتقادي الشخصي، أن الأسد كان يملك قدرة فائقة على الاحتواء. والاستيعاب. وتفكيك واختراق الأحزاب ومراكز القوى، خصوصا من السنة. فيختار وزراءه ومساعديه منهم، بعد اختبار ولائهم وانضباطهم سنين كثيرة (كالشرع)، حريصا على أن يكونوا دون المستوى العادي للذكاء والكفاءة، كمحمود الزعبي الذي ظل رئيسا للحكومة 13 سنة متوالية!
كان الأسد يظهر وكأنه فوق الصراع، ليتحكم به بـ«الريموت كونترول». كما فعل في الصراع الخطير بين شقيقه الأصغر رفعت وقادة الفرق العلوية في الجيش. أما خدام فقد كان أكثر انفتاحا وذكاء من الشرع «الحوراني المنضبط» الذي لا يصلح، في تقديري، للعمل الدبلوماسي، بسبب الهواجس. والجفاء في الطبع. وانغلاقه الآيديولوجي. وقال لي خدام «إن مدير مكتبه وليد المعلم كان أفضل من الشرع». وأضيف من عندي أن الشرع أضاع فرصا كثيرة للتوصل إلى اتفاق حول الجولان. ويبدو ذلك واضحا في مذكراته التي سأعرض فيها تفاصيل عمله، يوم الثلاثاء المقبل.
للأمانة، لا بد من القول إن فاروق الشرع كان مركز القوة الوحيد الذي لم ينغمس في فساد سائر مراكز القوى. وإذا كان قد أثرى، فبفضل مخصصات سفرياته الباهظة. والهدايا التي تلقاها. وكان عليه إيداعها خزانة الدولة، كما ينص القانون في الدول الديمقراطية.
كانت علاقة الشرع بشعبه وقيادته الحزبية واهية. وجهه في محادثاته وصوره حمل دائما تعبير الجدية الصارمة. والعصبية المتوترة. فعانى من أزمة قلبية نجا منها بعمليتين جراحيتين. ويقول إنها لم تؤثر على ملكاته الذهنية. مع ذلك، نسي الشرع أو تجاهل عمدا في مذكراته أحداثا خطيرة.
لا كلمة في المذكرات عن أحداث حماه (1982). لا كلمة عن اعتصام وتأميم النقابات المستقلة (1980). لا مراجعة نقدية لغزوة الأردن (1970). وحرب النكسة (1967). وإسقاط حكم القيادة القومية للحزب (1966). ودور الشريكين اللدودين الأسد وصلاح جديد في كل ذلك. مع تجاهل تام لتوريط أميركا للأسد في لبنان (1976). هناك القليل القليل عن حروب الرهائن. والمخيمات. وشيعة «حزب الله» و«أمل». وفلسطينيي الأسد ضد فلسطينيي عرفات. وكلها أسقطت ألوف الضحايا والجرحى.
تروي المذكرات تفاصيل غير وافية، حتى عن غيبوبة الأسد القلبية (1982). وعن محاولة «الإخوان» اغتياله (1980). دفع الأسد بعفوية قنبلة يدوية تدحرجت نحوه. انفجرت الثانية بقربه. فأصابته بجروح في الصدر والقدمين. خرج من المستشفى، ليعرض على «الإخوان»، بدهائه الشديد، توزيرهم واستيعابهم في الحكم! فرفضوا. وهربوا إلى الأردن.
لا شيء في المذكرات عن تصعيد دور المخابرات. وتسييسها، بعد المواجهة الصعبة مع رفعت الأسد، بحيث سيطرت على الجيش. والحزب. والإدارة الحكومية. وأدارت الفساد. والإرهاب. والاغتيالات: كمال جنبلاط (1977). صلاح البيطار والصحافي سليم اللوزي (1980). الرئيس بشير الجميل. إيلي حبيقة (الثمانينات والتسعينات). ورفيق الحريري الذي تكفل استشهاده في (2005) بإخراج القوات السورية من لبنان.
حديث الثلاثاء المقبل أيضا عن مذكرات فاروق الشرع (77 سنة) ودوره الدبلوماسي في تنفيذ سياسة الأسد المزدوجة: التضامن مع العرب. وإدخال «حصان طروادة» الإيراني إلى المشرق العربي.
نقلا عن الشرق الاوسط
-
بحث موقع مفكر حر
أحدث المقالات
الحزب الشيوعي لايختلف عن الاحزاب الدينية الفاشية .. الداخل مفقود والخارج مولود
Published by:مفكر حر** كيف بلع نظام الملالي ... الطعم ألإسرائيلي **
Published by:سرسبيندار السندي** كيف يسخر ويضحك صبيان محمد الجدد ... على عقول ألمسلمين **
Published by:سرسبيندار السنديالمسيح في فكر الإسلام والعقيدة المسيحية
Published by:صباح ابراهيممن يوميات إمرأة حلبجية
Published by:مفكر حراسطورة الإسراء والمعراج
Published by:صباح ابراهيمالفيلم الألماني " حمى الأسرة"
Published by:طلال عبدالله الخوري** جدلية وجود ألله … في ضوء علم الرياضيات **
Published by:سرسبيندار السنديفيلم ايطالي عام 1959 عن تدمر والملكة العربية زنوبيا … علامة المصارع
Published by:مفكر حر** أمة الكُورد بين ألإسلام … والتخلف والتعصب والاوهام **
Published by:سرسبيندار السنديالنظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/10
Published by:علي الكاشأفكار شاردة من هنا وهناك/51
Published by:مفكر حرقراءة متأنية في ديوان (قصائد منزوعة السلاح) للشاعر نينوس نيراري
Published by:آدم دانيال هومه** كيف رتبت أل سي اي ايه … لقاء الصحفي تايكر ببوتين ولماذا ألان **
Published by:سرسبيندار السندي** هل سينجو ملالي إيران بفروة رؤوس … بعد مجزرة طوفان الاقصى وغزة والمنطقة**
Published by:سرسبيندار السنديالنظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/8
Published by:علي الكاشأفاعي السوء وباعة الكذب في مهب الريح( 18-19 )
Published by:حسن محموديأفكار شاردة من هنا وهناك/49
Published by:مفكر حرالانتخاب
Published by:مفكر حر" الاشياء البائسة" Poor Things
Published by:طلال عبدالله الخوريالأدب النسوي ما بين الإبداع والاستغلال
Published by:اسعد عبد الله عبد عليأفكار شاردة من هنا وهناك/48
Published by:مفكر حرالرب يفضح الأنبياء الكذبة
Published by:صباح ابراهيمأخطار تهدد الحياة على الأرض
Published by:صباح ابراهيمكأس عسل
Published by:عصمت شاهين دو سكيسليلة الآلهة
Published by:آدم دانيال هومهأفاعي السوء وباعة الكذب في مهب الريح ( 16, 17)
Published by:حسن محمودي** محنة العقل في الاديان ومعضلة كتبها … بالدليل والبرهان **
Published by:سرسبيندار السندي** لماذا قصف نظام الملالي الارعن … مدينة أربيل ألان **
Published by:سرسبيندار السندياوبنهايمر
Published by:طلال عبدالله الخوري** مَن سيُحاسب قادة حماس … على جرائمهم بحق غزة وأهلها **
Published by:سرسبيندار السندياسرار #الموساد عن #العراق - ج 1
Published by:صباح ابراهيمالمرأة بين الماضي والحاضر مسيرة كفاح وتنمية ونماذج معاصرة
Published by:مفكر حرالنظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/4
Published by:علي الكاشالقاسم الأيمانيّ المشترك :
Published by:مفكر حرعام جديد..
Published by:مفكر حر** قصة مِيلادِ السيّد المَسِيحْ … العجيبة والفريدة **
Published by:سرسبيندار السندي#محمد_الماغوط من الغباء ان ادافع عن وطن لا املك فية بيتنا
Published by:محمد الماغوطأفكار شاردة من هنا وهناك/43
Published by:مفكر حرمن هو يسوع المسيح ؟ - يسوع المسيح يكشف لنا حقيقة الله-
Published by:مفكر حرالنظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/3
Published by:علي الكاشفاطمة الزهراء و غموض تاريخها
Published by:صباح ابراهيم#نزار_قباني: أيها المسيح العظيم هل تقبل دعوتي إلى العشاء .
Published by:نزار قباني** أيا عُبَّاد الهلال … لنا لكم سؤال **
Published by:سرسبيندار السنديهل روح الله هو الله ام جبريل ؟
Published by:صباح ابراهيمأُمة فيها العجب
Published by:عصمت شاهين دو سكيتجاعيد وايجار واتهام
Published by:اسعد عبد الله عبد عليتقاسيم على أوتار الريح
Published by:آدم دانيال هومهالنظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/1
Published by:علي الكاشالدعاء على المسيحيّين
Published by:مفكر حرمباحث في الأدب واللغة/63 الطعام والمطبخ العربي
Published by:مفكر حرأفكار شاردة من هنا وهناك/41
Published by:مفكر حر#مسيحيو_المشرق و(الخيارات المرة )!!!:
Published by:مفكر حرهادي العامري واوهام المدمنين
Published by:علي الكاشالكفاءة
Published by:عصمت شاهين دو سكيأفكار شاردة من هنا وهناك/40
Published by:مفكر حرالعهد الجديد و سفر التكوين والخليقة
Published by:صباح ابراهيمأحدث التعليقات
- س . السندي on الفيلم الألماني ” حمى الأسرة”
- Sene on اختلاف القرآن مع التوراة والإنجيل
- شراحبيل الكرتوس on اسطورة الإسراء والمعراج
- Ali on قرارات سياسية تاريخية خاطئة اتخذها #المسلمون اثرت على ما يجري اليوم في #سوريا و #العالم_العربي
- ابو ازهر الشامي on الرد على مقال شامل عبد العزيز هل هناك دين مسالم ؟
- س . السندي on ** هل سينجو ملالي إيران بفروة رؤوس … بعد مجزرة طوفان الاقصى وغزة والمنطقة**
- مسلم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- الحكيم العليم الفهيم on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- المهدي القادم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- Joseph Sopholaus (Bou Charaa) on تقاسيم على أوتار الريح
- س . السندي on النظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/3
- س . السندي on اوبنهايمر
- محمد on مطالعة الرجل لمؤخرة النساء الجميلات
- ألعارف الحكيم : عزيز الخزرجي on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- س . السندي on علماء النصارى كانوا يتسمون اسماء اسلامية
- س . السندي on فاطمة الزهراء و غموض تاريخها
- س . السندي on ** أيا عُبَّاد الهلال … لنا لكم سؤال **
- س . السندي on سورة مريم اقتبست من شعر امية بن ابي الصلت
- لينا on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- لينا on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- س . السندي on #محمد_الماغوط من الغباء ان ادافع عن وطن لا املك فية بيتنا
- Mohammad Al Kassab on ضحايا صدام حسين 7
- ابن الرافدين on ** أيا عُبَّاد الهلال … لنا لكم سؤال **
- قثيم بن سنحريب الفيروزي on ** أيا عُبَّاد الهلال … لنا لكم سؤال **
- مسلم on القرآن زور التوراة والإنجيل
- ألعارف الحكيم : عزيز الخزرجي on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- قثم بن عبد الات القرشي on هدف حماس من (طوفان الأقصى) وهدف إسرائيل من اعلان حالة الحرب
- طوفان البدروسي on ** لماذا ورطت إيران قادة حماس … بطوفان الاقصى ألان **
- مفكر حر on القول ما قاله سماحة #الكاردينالساكو بشأن فاجعة #عرسالحمدانية
- مفكر حر on القول ما قاله سماحة #الكاردينالساكو بشأن فاجعة #عرسالحمدانية