ثورة أهل الجحيم

ثورة أهل الجحيم؛ للشاعر العراقي جميل صدقي الزهاوي
راجَعَها بعناية وتدقيق: رياض الحبيّب في 23 آب- أغسطس 2012

https://mufakerhur.org/?author=6
عَروض القصيدة: بحر الخفيف
شكرًا خاصًّا لموقع الباحث العربي إذ أعانني على التأكد من بعض مفردات اللغة
http://baheth.info/

خاص: موقع المُفكِّر الحُرّ
– – –

بَعْد أن مُتُّ واٌحتواني الحَفـيرُ * جاءني مُنكَرٌ وجاء نَكيرُ

مَلَكانِ اٌسْطاعا الظهور ولا أدري لماذا وكيف كان الظهورُ

لهُما وَجْهانِ اٌبتَنَتْ فيهِما الشِّرَّةُ عُشًّا كِلاهُما قمْطريرُ

ولكُلٍّ أنفٌ غليظ طويلٌ * هُوَ كالقرْنِ بالنّطاح جَديرُ

وفمٌ مَهْروتٌ يضاهي فم الليث يُريني نابًا هو العنقفيرُ

وبأيديْهما أفاعٍ غِلاظٌ * تتلوّى مَخُوفةً وتدورُ

وإليَّ العيونُ تُرسِل نارًا * شرُّها مِن وميضها مستطيرُ
 
كنتُ في رقدةٍ بقبري إلى أنْ * أيقظاني منها وعاد الشعورُ
 
فبدا القبر ضيِّقًا ذا وخومٍ * ما بهِ للهواء خَرْقٌ صغيرُ
 
إنّهُ تحت الأرض إلا قليلًـا * مَنزِلُ المَرْءِ ذي الطموح الأخيرُ

ألِمَنْ خابَ حُفرةٌ ذاتُ ضيق * ولِمَنْ فاز روضةٌ وغديرُ
 
أتَيَا للسؤال فَظَّينِ حيثُ المَيْتُ بعد استيقاظِهِ مذعورُ
 
عن أمورٍ كثيرة قد أتاها * يومَ في الأرض كان حيًّا يسيرُ

صَيحةٌ تحت الأرض ثُمَّ حِوارٌ * بين أقساهما وبيني يدورُ
 
واقفًا لي كأنما هو نَسْرٌ * وكأنّي أمامَهُ عُصفورُ

خار عزمي ولم أكن أتظنَّى * أنّ عزميْ يومًا لشيءٍ يخورُ
 
ولقد كنت في البداءة أشْحَى * مثلما يشحى للخشاة الذعورُ
 
ثمّ أني مَلكْتُ نفسيْ كأنّي * لست أخشى شيئًا وأنّي جَسورُ
 
مُظهِرًا أني كنتُ أحْمِلُ نفْسًا * لم يكُنْ للشكوك فيها خطورُ

غيْرَ أني صَدَعْتُ بالحق في الآخِر حتى اٌلتاثتْ عليَّ الأمورُ
 
في الأديب الحُرِّ النفاقُ ذميمٌ * وهْوَ ما لا يرضاهُ مِني الضَّميرُ
 
فألمَّتْ بيَ الرزيَّةُ حتّى * ضَجِرَتْ مِن ضجيج قبري القبورُ
 
قال من أنت وهو يَنظُرُ شَزْرًا * قلتُ شيخٌ في لحْدِهِ مقبورُ
 
قال ماذا أتيتَ إذ كنتَ حيًّا * قلت كلُّ الذي أتيتُ حقيرُ
 
ليس في أعمالي التي كنت آتيها على وجه الأرض أمْرٌ خطيرُ
 
قال في أيٍّ من ضروب الصناعات تخصّصْتَ إنهُنَّ كثيرُ

قلت مارست الشِّعْـر أرعى به الحقَّ وقد لا يفُوتُني التصويرُ
 
قال ما دِينُكَ الذي كنت في الدنيا عليه وأنت شيخٌ كبيرُ
 
قلت كان الإسلام دينيَ فيها * وهْو دينٌ بالاحترام جديرُ
 
قال من ذا الذي عبدتَ فقلت اللهَ ربِّي وَهْوَ السَّميعُ البصيرُ
 
قال ما ذا كانت حياتُك قبْلًـا * يومَ أنتَ الحرُّ الطليق الغريرُ

قلت لا تسألنَّني عن حياة * لمْ يكن في غضونها لي حُبور
 
كنتُ عبدًا مُسَيَّرًا غيرَ حرٍّ * لا خَيارٌ له ولا تخييرُ
 
ما حَبَوني شيئًا مِن الحَول والقدرة حتى أديرَ ما لا يدورُ
 
كان خيرًا مني البهائمُ تثوي * حيث لا آمِرٌ ولا مأمورُ

قال هلّـا كسَبْتَ غير المعاصي * قلتُ إن لمْ أكسبْ فربّي غفورُ
 
كان إثميْ أنِّيْ إذا سألوني * لم أقلْ ما يقوله الجمهورُ
 
إنّهُمْ مِن أوهامِهمْ في إسارٍ * ولقد لا يُرضيهُمُ التحريرُ
 
وإذا لم يكن هنالك رأي * لِيَ أفضي بهِ فلا أستعيرُ
 
رُبَّ أمر يقول في شأنه العقل نقِيضُ الذي يقولُ الضميرُ
 
ثمَرات الأحراث لا تتساوى * هذهِ حنطةٌ وهذا شعيرُ
 
وقشورٌ وما هناك لُبابٌ * ولبابٌ وما هناك قشورُ
 
يتبع الجاهل الغويُّ أخاه * مثلما يتبع الضَّريرَ الضريرُ
 
قال هل صدَّقتَ النبيِّين فيما * بلّغوهُ ولم يَعُقْكَ الغُرورُ؟
 
والكتابَ الذي من الله قد جاء فأدلى به البشيرُ النذيرُ

قلتُ في خَشْيَةٍ: بلى وفؤادي * مِن شُعاعٍ بهِ يكاد يطيرُ
 
إنهُ مُنزَلٌ من الله يهدي الناس طرًّا فهْوَ السّراجُ المنيرُ
 
قال هل كنتَ للصلاة مُقيمًا * قلتُ عنها ما أن عَراني فتورُ
 
إنما في اقتناء حُورٍ حِسانٍ * بصلاةٍ تجارةٌ لا تبورُ
 
قال هلْ صُمتَ الشَّهْرَ مِن رَمَضانٍ * قلتُ قد صُمتُهُ وطابَ الفطورُ
 
قال هل كنت للزكاة بمُؤتٍ * قلت ما كان لي بها تأخيرُ
 
قال والحجّ ما جوابُك فيهِ؟ * قلت قد كان لي بحجّي سُرورُ
 
قال هل كُنت للجهاد خفيفًا * قلت إني لبالجهادِ فخورُ
 
قال هل كنت قائلًـا بنشورٍ * قلت ربّي على النشور قديرُ

فإذا شاء للعباد نُشورًا * فمِن السّهل أن يكون نشورُ
 
قال ماذا تقول في الحَشْر والميزان ثم الحساب وهْوَ عسيرُ؟
 
والسؤالِ الدقيق عن كُلِّ شيء * والصِّراطِ الذي عليه العُبورُ
 
والجنانِ التي بها العَسَل الماذيُّ قد صفّوهُ وفيها الحُورُ
 
وبها ألـبـانٌ تفيضُ ولهوٌ * وأباريقُ ثرَّةٌ وخُمورُ
 
وبها رُمّانٌ ونخْلٌ وأعنابٌ وطَلْحٌ تشدو عليه الطيورُ
 
ليس فيها أذىً ولا مُوبِقاتٌ * ليس فيها شمسٌ ولا زمهريرُ
 
والجحيم التي بها النار تذكو * في دهور وراءهنَّ دُهورُ

إنما المُهْلُ ماؤها فهْوَ يغلي * والهواءُ الذي يهبُّ الحَرُورُ
 
تلك فيها للمُجرمين عَذابٌ * تلك فيها للكافرين سَعِيرُ
 
إنّ مَن كان كافرًا فهْوَ فيها * وإن اعتاد أن يبرَّ خسِيرُ
 
هو في نارها الشديدة حَرَّانُ وفي زمهريرها مقرورُ
 
قلتُ مَهْلًـا يا أيها المَلَكُ المُلحِف مهلًـا فإنّ هذا كثيرُ
 
كان إيمانيْ في شبابيَ جَمًّا * ما بهِ نُزْرة ولا تقصيرُ
 
غيْرَ أنّ الشُّكوك هبّتْ تُلاحيني فلمْ يستقرّ مني الشّعورُ
 
ثم عاد الإيمان يومًا إلى أنْ * سَلَّهُ الشيطانُ الرَّجيمُ الغَرورُ
 
ثمّ آمنتُ ثم ألحَدْتُ حتى * قيل هذا مُذبذَبٌ مَمْرورُ
 
ثم دافعتُ عنهُ بعد يقين * مثلما يفعل الكميُّ الجَسورُ
 
وتعمَّقتُ في العقائد حتى * قيل هذا علّـامةٌ نِحْريرُ
 
ثُمَّ أنِّي في الوقت هذا لخَوفي * لستُ أدري ماذا اٌعتقادي الأخيرُ

لمْ يُرِبْني أمرُ الصِّراط مُقامًا * فوق وادٍ من الجحيم يفورُ

غير أني أجلُّ ربّكَ من إتيان ما يأباه الحِجى والضميرُ

فإذا صَحَّ أنه كغِرار السّيف أو شعرةٌ فكيف العبورُ

لا تخَلْ أنّ عَبْر جسرٍ دقيقٍ * ذَرْعُهُ آلاف السنين يسيرُ

إنَّ ألفًا من الصعود وألفًا * ذو استواء سَمْح وألفًا حدورُ

إنها شقّة تطُول فلا يقطعُها إلا البَهْمَةُ المِحضيرُ

ولعلَّ الذين ضحّوا بأكباش عليهِمْ بها يهُون المرورُ

أنا لو كنت بالبعير أُضَحِّي * سار بي مُرْقِلًـا عليه البعيرُ

ولوَ اٌنّي ركبتُ صهوة يعفور مضى بي يستعجل اليعفورُ

ولَوَ اٌني هَوَيت-لا سمح الرحمن- منهُ فيها لساءَ المصيرُ

لا يَطيبُ الخلود في لُجَج النار فإن الخلود شيءٌ كثيرُ

ربَّنا لا تُرسلْ علينا عَذابًا * ليس فينا على العذاب صَبورُ

ربنا اٌرفقْ بنا فإنّا ضِعافٌ * ما لنا مِن حَولٍ وأنت القديرُ

قال ماذا رأيتَ في الجنِّ قبلًـا * ومِن الجنِّ صالحٌ وشَريرُ

ثم في جبريلَ الذي هو بين الله ذي العرش والرّسولِ سفيرُ

ثم في الأبرار الملائك حول العرش والعرشُ قد زهاهُ النورُ

فتُدوِّي السّماءُ في السّمع مِن تسبيحِهِمْ مِثلما يُدوِّي القفيرُ

ثم في الخنّاس الذي ليس من وسواسه في الحياة تخلو الصُّدورُ

والعفاريتِ ذاهبين عُراةً * تجفلُ الوَحشُ منهُمُ والطيورُ

والشياطينِ مُفْسِدينَ بهِمْ قد * ضلَّ ناسٌ هُمُ الفريقُ الكبيرُ

قلت لله في السماوات والأرض وما بينهُنّ خَلْقٌ كثيرُ

غير أني أرتابُ في كلِّ ما قد * عجز العقلُ عنه والتفكيرُ

لَمْ يكُنْ في الكتاب مِن خطإٍ كلّـا ولكنْ قد أخطأ التفسيرُ

قال هلْ في السّفور نفعٌ يُرَجّى؟ * قلتُ خيرٌ من الحِجاب السّفورُ

إنما في الحجاب شَلٌ لشعْبٍ * وخَفاءٌ وفي السّفور ظُهورُ

كيف يسمو إلى الحضارة شعْبٌ * مِنهُ نِصْفٌ عن نصفِهِ مستورُ؟

ليس يأتيْ شعبٌ جلائلَ ما لمْ * تتقدمْ إناثُهُ والذكورُ

إنّ في رونق النهار لناسًا * لم يَزُلْ عن عيونها الدَّيجُورُ

قال هل في الإله عندك شك * قلت لا والذي إليه المصيرُ

 قال ماذا هو الإلهُ فهلْ أنتَ مُجيبي كما يُجيب الخبيرُ؟

قلتُ أنّ الإله فوق منال العقل مِنّا وهْوَ العزيزُ الكبيرُ

إنّما هذه الطبيعة ذاتُ اللاتناهي كتابُهُ المسطورُ

إنها للإله سِفْـرٌ قديمٌ * ذو فصول والكائنات السُّطورُ

ولقد قال ناعتوهُ هو العالِمُ مِنّا بما تكنّ الصدورُ

إنه في الجبال والبر والبحر من الأرض والسماوات نورُ

فلهُ الأرض ما لها من سكون * والسماوات ما بهنّ فطورُ

كل حَيٍّ به يعيش ويردى * وكما قد أراد تجري الأمورُ

إنهُ واهب الوجود فلولاه لما كان للوجود ظهورُ

إنه واجب الوجود فقد كان ولا عالمٌ ولا دستورُ

عرشه في السماء وهْوَ عليهِ * مُستوٍ ما لأمْرِهِ تغييرُ

وهو يهتز للمعاصي كما يهتز في زرقة الصباح السَّريرُ

وهو إن قال كنْ لشيء يكون الشيءُ من فوره فلا تأخيرُ

إنّ هذا ما قد تلقّنتُهُ والقلبُ مِن شكِّهِ يكاد يخورُ

قلتُ ما قلتُ ثمَّ أنّكَ لا تدري أحقٌّ ما قلتُهُ أمْ زورُ

وأرى في الصّفات ما هُوَ لله تعالتْ شؤونُهُ تصغيرُ

ما عقابي مِن بَعْد ما صَحَّ نقلًـا * أنَّ ما قد أتيتُهُ مقدورُ

ليس لي في ما جئتُهُ مِن خَيارٍ * إنني في جميعِهِ مجبورُ

وإذا كان منه كفري وإيماني فإنّ الجزاء شيءٌ نكيرُ

ألِلَهْوٍ والله ليس بلـاهٍ * أم لجُورٍ والله ليس يجورُ

أمِن الحقّ خلقُ إبليسَ وهْو المُستبدّ المُضَلِّلُ الشِّرِّيرُ

إنه يُلقي في النفوس شكوكًا * ذاتَ أظفارٍ نزْعُهُنّ عَسيرُ

إنّما في الدّارَين عَسْفٌ وحَيفٌ * غير أنّ السماء ليست تَمُورُ

فلِناسٍ تعاسةٌ وشقاءٌ * ولناسٍ سعادةٌ وحُبُورُ

قال ما ذاتُهُ؟ فقلتُ مجيبًا * بلسانٍ قد خانهُ التفكيرُ

إنني لا أدري مِن الذّات شيئًا* فلقد أسدلتْ عليها السُّتورُ

إنما عِلْمِي كلُّهُ هُوَ أنّ الله حيٌّ وأنَّهُ لا يَبُورُ

ما لكلِّ الأكوان إلّـا إلهٌ * واحدٌ لا يزول وهْوَ الأثيرُ

منه هذا الوجود فاضَ عميمًا * وإليه بعد البوار يصيرُ

ليس بين الأثير والله فرقٌ * في سوى اللفظ إنْ هَداكَ الشّعورُ

وبحسْبي أني صَدَعْتُ بما أدري على عِلْمِي أنهُ سيَضِيرُ

وإذا لم أرِدْ لأبْسُطَ رأيي * في جوابي فإنني مَعـذورُ

أمِن السهل أن أغيّرَ قلبي * بعد ما في فَوْدَيَّ بان القتيرُ

قال إني أرى بخدِّك تصعيرًا فهلْ أنتَ يزدهيكَ الغرورُ؟

قلت من مات لا يُصَعِّر خدًّا * ليس بالموتى يُخلَقُ التصعيرُ

إنني أخشى الظالمين فلا أفـضي إليهِمْ بما برأسي يدورُ

أيّ ذي مُسكةٍ يقولُ صَريحًا * وعليها سَيفُ الأذى مشهورُ؟

لا تكونا عليَّ فَظَّينِ في قبري فإني شيخٌ بعطفٍ جَديرُ

إنّ قول الحقِّ الصّراح على الأحرار حتى في قبرهِمْ محظورُ

فدعاني في حُفرتي مستريحًا * أنا من ضوضاء الحياة نَفورُ

أتعبَتْني الأيام إذ كنت حيًّا * وأنا اليوم للسكون فقيرُ

أتْرُكاني وحدي ولا تُزعجاني * بزياراتٍ ما بهنَّ سرورُ

أتركاني ولا تزيدا عنائي * بسؤالٍ فإنني مَوتورُ

لمْ تُصَنْ مِن جَراءة المستبدِّين على الهالكين حتى القبورُ

كيف أفضيتما إلي َّ بقبري * وعليه جَنادلٌ وصُخورُ

قلتُ لما هبطتُ أعماقَ قبري * ليس خيرًا من البطون الظهورُ

فإذا القبرُ ضَيِّقٌ بذويهِ! * وإذا القبر فيه كَرْبٌ كثيرُ

إنّما الدائرات في كل وقتٍ * ومكانٍ على الضعيف تدورُ

قال هذا هو الهُراء وما إنْ * لاٌحتجاجٍ تلغو به تأثيرُ

قلتُ في غَصَّة إذنْ فاٌصنَعا بي * ما تُريدانِهِ فإنِّي أسيرُ

عَذِّباني هنا إذا شئتُما أو * ألقِياني في النار وهْيَ تـثورُ

كنتُ لا أدري يوم كنتُ على الأرض طليقًا أنّ الممات ثُبورُ

وسأمشي إلى جَهَنَّمَ مدفوعًا وخلفي كالسَّيل جَمٌّ غفيرُ

إنما قد سألتُما عن أمورٍ * هِيَ ليست تُغني وليست تَضيرُ

ولماذا لمْ تسألـا عن ضميري * والفتى من يعفُّ منه الضميرُ؟

ولماذا لم تسألـا عن جهادي * في سبيل الحقوق وهْوَ شَهيرُ

ولماذا لم تسألـا عن ذيادي * عنْ بلادي أيام عَزَّ النصيرُ

ولماذا لم تسألـا عن وفائي * ووفائي لِمَنْ صَحِبْتُ كثيرُ

ولماذا لم تسألـا عن مَساعِيَّ لـإبطال الشَّرِّ وهْو خطيرُ

عن دفاعي عن النساء عليهِنَّ من الشقوة الرجالُ تَجُورُ

وسَلـاني عمّا نظمْتُ من الشِّعْر فبالشعر يرتقي الجمهورُ

وسَلـاني عن نصريَ الحقَّ وَثّابًا به وهْوَ بالسؤال جديرُ

إنما الشعر سُلَّمٌ للمعالي * ثمَّ فيه لأمَّةٍ تحريرُ

إنهُ تارة لقومٍ غِناءٌ * ليناموا وتارة تحذيرُ

وسلاني عن جَعْليَ الصِّدقَ كالصَّخر أساسًا تُبنى عليه الأمورُ

إنما الصدق فاسألانِيَ عنهُ * خيرُ ما تنطوي عليه الصّدورُ

وسَلاني عن حِفظيَ الفنَّ مِن أنْ * يعتريهِ قبل التَّمام الدُّثورُ

أسُكُوتٌ عن كلِّ ما هُوَ حقٌ * وسُؤالٌ عن كل ما هُوَ زُورُ

قال كلّ الذي عرضْتَ علينا * أيها الشيخ الهِمُّ شيءٌ حَقيرُ

نحنُ لسنا بسائلَين سوى ما * كان حول الدِّين المُبِين يَدورُ

فأَفِدْنا إن كنتَ ذا صِلةٍ بالدِّين واٌذكُرْ ماذا هو التقديرُ

ثمَّ زِدْ ما تقولُ في جبل القاف أحَقٌّ فحْواهُ أمْ أسطورُ

جَبَلٌ مِن زمُرُّدٍ نِصْفُ أهليهِ ذوو إيمانٍ ونصفٌ كفورُ

جبلٌ إن أرسلت طَرْفًا إليه * رَجَعَ الطرف عنهُ وهْو حَسيرُ

وبيأجوجَ ثمّ مأجوجَ والسّدّ وإنكار كلّ هذا غُرورُ

وبهاروتَ ثم ماروتَ والسِّحْر الذي أُسدلَتْ عليهِ السّتورُ

قلتُ ما لي بكلِّ ذلك عِلْمٌ * فبجَحْدي عقلي عَلَيَّ يُشيرُ

كنتُ حيًّا فمُتُّ والموتُ حقٌّ * شاهداتٌ بما هناك القبورُ

كنت فوق التراب بالأمس أمشي * وأنا اليوم تحتَهُ مقبورُ

إنما الموتُ وهْوَ لا بُدَّ مِنهُ * سُنَّةُ الله ما لها تغييرُ

قال دَعْ عنكَ ذا وقلْ ليَ مَنْ ربُّكَ مِن قبْلِ أنْ يَسوء المَصيرُ

قلتُ أمْهلني في الجواب رُوَيدًا * إنني الآن خائفٌ مذعورُ

لا تكنْ قاسيًا عَلَيَّ كثيرًا * أنا شيخٌ مُهَدَّمٌ مأطورُ

كان ظني أنَّ الأثير هو الرّبّ كريمًا يَمُدُّني ويُجيرُ

لم يزلْ لي عقيدة ذاك حتى * حالَ مِن هَول القبر فيَّ الشّعورُ

إنَّكَ اليومَ أنتَ وحْدَكَ ربِّي * بكَ أحيا في حُفرتي وأبورُ

إنَّك الجَبّارُ الذي سوف تبقى * تحت سُلطانِهِ العظيمِ القُبورُ

قال ما أنتَ أيّها الرِّجْسُ إلّـا * ملحِدٌ قد ضلَّ السبيل كَفورُ

ما جزاء الذين قد كفروا إلّـا * عذابٌ بَرْحٌ وإلّـا سَعيرُ

ثمَّ تَـلّـاني للجبين وقالـا * لِيَ ذُقْ أنت الفيلسوفُ الكبيرُ

قلتُ صَفْحًا فكلُّ فلسفتي قد * كان مما يُمليهِ عقلي الصَّغيرُ

ثم قولي من بَعْدِها: أنت ربّي * هُو منّي حَماقةٌ وقصورُ

لم تكن أقوالي الجريئة إلّـا * نفَثاتٍ يرمي بها المَصدورُ

قد أسأتُ التعبير فالله ربّي * ما لهُ في كل الوجود نظيرُ

فأجاباني قائلَينِ بصوتٍ * لا يسُرّ الأسماعَ منه الهديرُ

قُضِيَ الأمرُ فاٌستعِدَّ لضَربٍ * منه تدمى بعد البطون الظهورُ

لا يفيد الإيمان من بعد كفر * وكذا جَدُّ الطائشين عثورُ

وأمَضّاني بالمَقامع ضربًا * كدتُ منه في أرض قبري أغورُ

لم يكن فيهما يثير حنانًا * جَسَدٌ لي دامٍ ودمعٌ غزيرُ

ولقد صِحتُ للمضاضة أبغي * لِيْ مُجيرًا وأين منّي المُجيرُ

ثم صَبّا بقسوة فوق رأسي * قَطِرانًا لسوء حَظّي يفورُ

فشوى رأسيْ ثم وجهيَ حتى * بان مِثلَ المجدور فيه بُثورُ

ثم أحسَسْتُ أنّ رأسيَ يغلي * مثلما تغلي بالوقود القدورُ

وقد اٌشتـدَّتِ الحرارة في قبريَ حتى كأنهُ تَـنّورُ

وأطالا فيهِ عَذابي إلى أنْ * غاب وعيي وزال عني الشّعورُ

ثم لمّا انتبهْتُ ألفيتُ أني * مُوثَقٌ من يدي وحَبْلي مَريرُ

ثم طارا بي في الفضاء إلى الجَنّة حتى يَغرى بلَومي الضميرُ

ما أرادا إلّـا عذاب ضميري * بعد أن إيفَ جسمِيَ المقطورُ

وأسَرَّا في أذْن رِضوانَ شيئًا * فأباح الجوازَ وهو عسيرُ

لمَسَتْ إذ دخلتُها الوجهَ منّي * نفحةٌ فاح عطرُها والعبيرُ

أخَذَتنْي منها المشاهدُ حتّى * خِلتُ أنّي سكرانُ أو مسحورُ

جَنّةٌ عرضُها السّماوات والأرض بها مِن شتّى النعيم الكثيرُ

فطعامٌ للآكِلين لذيذٌ * وشرابٌ للشاربين طَهورُ

سَمَكٌ مقليٌّ وطير شَوِيٌ * ولذيذ من الشواء الطيورُ

وبها بعد ذلكمْ ثمَراتٌ * وبها أكوابٌ وفيها وخُمورُ

وبها دوحة يقال لها الطوبى لها ظلٌ حيث سِرتَ يسيرُ

تتدلّى غصونها فوق أرض * عرضُها من كل النواحي شُهورُ

وجَرَتْ تحتها من العسل المُشتار أنهارٌ ما عليها خفيرُ

ومن الخمرة العتيقة أخرى * طعْمُها الزنجبيلُ والكافورُ

ومن الألبان اللذيذة ما يشربُهُ خَلْقٌ وهْوَ بَعْدُ غزيرُ

ثمّ للسلسبيل يطفح والتسنيمُ ماءٌ يجري به التفجيرُ

وجميع الحصباء دُرٌ وياقوتٌ وماسٌ شعاعُهُ مستطيرُ

كل ما يرغبون فيه مباحٌ * كل ما يشتهونهُ ميسورُ

وعلى أرضها زَرابيُّ قد بُثّتْ حِسانًا كأنّهُنّ زُهورُ

وعليها أسِرَّةٌ وفِراشٌ * مثلما يهوى المؤمنون وثيرُ

وعلى تلكمُ الأسِرَّة حُورٌ * في حُلِيٍّ لها ونِعْمَ الحورُ

لسْنَ يَخْشَين في المَجانة عارًا * وإنِ اٌهتزَّ تحتهُنَّ السَّريرُ
 
كلّ مَن صلَّى قائمًا وتزكَّى * فمِن الحُور حَظّهُ موفورُ

ولقد يُعطى المرءُ سبعين حَوراءَ عليهِنَّ سُندُسٌ وحَريرُ

يتهادَين كالجُمان حِسانًا * فوق صَرْحٍ كأنه البَلُّورُ

حبَّذا أجيادٌ تَـلِعْـنَ وأنظارٌ بها كل مُبْصِرٍ مسحورُ

وخُصُورٌ بها ضُمورٌ وأعجازٌ ثِقالٌ تعيا بهِنَّ الخُصورُ

وكأن الوُلْدان حين يَطُوفون على القوم لؤلؤٌ منثورُ

إئتِ ما شِئتَهُ ولا تخْشَ بأسًا * لا حَرامٌ فيها ولا محظورُ

إنَّ فيها من الحدائق غابًا * تتغنّى من فوقهِنَّ الطيورُ

إنَّ فيها جميعَ ما تشتهيهِ النفسُ والعينُ واللُها والحُجورُ

فإذا ما اٌشتهيتَ طيرًا هوى مِن * غُصْنِهِ مَشْويًّا وجاء يَزورُ

طِينُها مِن فالوذجٍ لا يَمَلُّ المرءُ منهُ فهْوَ اللذيذ الغزيرُ

وإذا رُمتَ أن يحولَ لك التينُ دَجاجًا أتى إليك يطيرُ

أو إذا شئتَ أن يصير لك الحَصْباءُ دُرًّا فإنّهُ لَيصِيرُ

إنَّ فيها مشيئة المرء تأتي * عَجَبًا عنه يعجزُ الإكسيرُ

ليس فيها موتٌ ولا موبقاتٌ * ليس فيها شمسٌ ولا زمهريرُ

لا شِتاءٌ ولا خريفٌ وصيفٌ * أترى أنّ الأرض ليست تدورُ؟

جنّةٌ فوق جنّةٍ فوق أخرى * دَرَجاتٌ في كلِّهِنَّ حُبُورُ

وحِياضٌ قد أترعَتْ ورياضٌ * قد سقى الطلُّ زهْرَها وقُصُورُ

كلُّ هذا وكلّ ما فوق هذا * فبهِ طَرْفُ القوم فيها قَريرُ

ولقد حُلُّوا فوق ذلك فيها * فضة في أساور تستنيرُ

ولهُمْ فيها نعمةٌ بعد أخرى * ولهُمْ فيها لَذّةٌ وسُرورُ

ولقد رُمتُ شَرْبةً مِن نَميرٍ * فتيمَّمْتُهُ ففرَّ النميرُ

وكأنَّ الماء الذي شِئتُ أن أشربَهُ باٌبتعاده مأمورُ

وتذكَّرتُ أنني رَجُلٌ جيءَ بهِ كي يُراعَ منهُ الشعورُ
 
أيّ حق في أنْ أنال شرابي * بعد أن صحّ أنني مثبورُ؟

قلتُ عُودا من حيث قد جئتُما بي * إنّما هذهِ لهمِّي تُثيرُ

أنا راضٍ من البيوت بقبر * يتساوى عشيُّهُ والبكورُ

أيّها القبرُ اٌرحمْ طوالعَ شيبي * أنا في كَرْبتي إليكَ فقيرُ

أخرَجاني منها وشَدّا وثاقي * بنُسُوعٍ كما يُشَدُّ البعيرُ

ثمَّ قاما فدَلَّياني ثلاثًا * في صميم الجحيم وهي تفورُ

وأخيرًا في جوفها قذفا بي * مثلما يقذف المتاعَ الحقيرُ

لست أسطيع وصفَ ما أنا قد قاسيتُ منها فإنهُ لَعَسيرُ

ربِّيَ اٌصرفْ عني العذاب فإني * إن أكنْ خاطِئًا فأنتَ الغفورُ

وكأنَّ الجحيم حُفرة بركان عظيم لها فمٌ مغفورُ

تدلعُ النارُ منه حمراءَ تُلقي * حِمَمًا راح كالشّواظ يطيرُ

ثم أني لها سمِعتُ حسيسًا * فاٌقشَعَرَّتْ منهُ برأسي الشُّعُورُ

خالطتهُ اٌستغاثة القوم فيها * كهَرير إذا استمرّ الهريرُ

إنها في أعماقها طبقاتٌ * بعضُها تحت بعضها محفورُ

وأشَدُّ العذاب ما كان في الهاوية السفلى حيث يطغى العسيرُ

حيث لا ينصر الهضيمَ أخوه * حيث لا يُنجدُ العشيرَ العشيرُ

الطعامُ الزقّوم في كل يوم * والشرابُ اليَحمومُ واليَحمورُ

ولقد يُسقى الظامئون عصيرًا * هُو من حنظل وساءَ العصيرُ

ولهُمْ من بعد الزفير شهيقٌ * ولهمْ من بعد الشهيق زفيرُ

ولهمْ فيها كلّ يوم عذاب * ولهمْ فيها كل يوم ثبورُ

ثمّ فيها عقاربٌ وأفاعٍ * ثم فيها ضراغمٌ ونُمورُ

يضرعُ المجرمون فيها عِطاشًا * والضراعاتُ ما لها تأثيرُ

ولهُمْ مِن غيظ تأجّج فيهِمْ * نَظَراتٌ شرارُها مستطيرُ

وُقِدتْ نارُها تئزّ فتغلي * أنفسٌ فوق جَمْرها وتخورُ

ولقد كانتِ الوجوهُ من الضّالين سُودًا كأنهُنّ القِيرُ

ولقد كانت الملامحُ تخفى * ولقد كانت العيون تغورُ

لست أنسى نيرانها مائجات * تتلظى كأنهُنَّ بُحورُ

ولقد صاح الخاطئون يريدون نصيرًا لهُمْ وعزَّ النصيرُ

وتساوى أشرافهُمْ والأداني * وتساوى غنيّـهُمْ والفقيرُ

كنت أمشي فيها فصادفتُ ليلى * بين أترابٍ كالجُمان تسيرُ

فوق جَمر يشوي ونار تَلَظّى * وأفاعٍ في نابهِنَّ شُرورُ

وعيونُ الحسناء مُغرورقاتٌ * بدموع فيها الأسى منظورُ

قلت ماذا يُبكي الجميلة؟ قالتْ * أنا لا يبكيني اللظى والسعيرُ

إنما يُبكيني فراقُ حبيبي * وفراق الحبيب خَطْبٌ كبيرُ

هُوَ عنيَّ ناءٍ كما أنا عنهُ * فكِلانا عَمّن أحَبَّ شَطيرُ

فرَّقوا بيننا فما إنْ أرى اليومَ سميرًا ولا يراني سميرُ

قذفوهُ في هُوَّةٍ ليس منها * مَخرَجٌ للمقذوف فهي قَعورُ

أوهِ إنّ الفراق أصعَبُ مِن كلِّ عذاب يشقى به الموزورُ

ولو اٌنّا كنا جميعًا لخَفّ الخطبُ في قُربهِ وهان العسيرُ

لا أبالي نارًا وعندي حبيبي * كلُّ خَطْب دون الفراق يسيرُ

قلتُ ماذا جنيتِ في الأرض حتى * كان حَتمًا عليكِ هذا المصيرُ؟

فأجابتْ قد كان لي وسميرًا * قبل أن نردى للجحيم نكورُ

جَهْلُنا للجحيم أوجَبَ أنّا * بعد أن نردى للجحيم نزورُ

ولقد أبصَرتُ الفرزدق نِضوًا * يَتلوّى ووجهُهُ معصورُ

وإلى جنبهِ يقاسي اللظى الأخطلُ مستعبرًا ويشكو جَريرُ

قلتُ ما شأنكُمْ فقالوا دَهانا * من وراء الهجاء ضَرٌّ كثيرُ

ولقد كان آخرون حواليهِمْ جثومًا وكلُّهُمْ موتورُ

مِنهُمُ العالِمُ الكبيرُ ورَبُّ الفنّ والفيلسوفُ والنِّحريرُ

لم أشاهد بعد التلفّت فيها * جاهلًـا ليس عنده تفكيرُ

إنّما مثوى الجاهلين جِنانٌ * شاهقاتُ القصور فيها الحُورُ

غيرَ قِسْمٍ هُوَ الأقلُّ سعى يُصْلِحُ حتى اٌهتدى به الجمهورُ

ثم حَيّاني أحمدُ المتنبّي * والمَعَريُّ الشيخ وهو ضَريرُ

وكلا الشاعِرَين بَحْرٌ خِضَمٌّ * وكلا الشاعرين فحْلٌ كبيرُ

ولقد كاد يخنق الغيظُ بشّارًا وفي وجهه الدميم بُثورُ

وهُو الشاعر الذي ظلَّ ما قال طريفًا وإن طوته العصورُ

ويَليهِمْ أبو نؤاسَ كئيبًا * وَهْوَ ذاك المِمْراحةُ السِّكِّيرُ

مِثْلُهُ الخيّامُ العظيمُ ودَنْتِي * وإمامُ القريض شاكِسبيرُ

ولقد كان لاٌمرىء القيس بين القوم صَدْرٌ وللمُلوكِ صُدورُ

قلتُ ماذا بكُمْ فقالوا لقِيْنا * مِن جزاءٍ ما لا يُطيق ثَبيرُ

إنّنا كُنّا نستخِفّ بأمر الدِّين في شِعْرِنا فساءَ المَصيرُ

وسَمِعْتُ الخيّامَ في وَسَط الجَمْع يُغنّي فيَطرَب الجمهورُ

مُنشِدًا بينهُمْ بصوتٍ شَجيٍّ * قِطعةً مِن شِعْر غِذاهُ الشّعورُ

حبّذا خمرةٌ تُعِينُ على النيران حتّى إذا ذَكَتْ لا تَضِيرُ

وتُسَلِّي من اللهيب فلا يبقى متى شبَّ منهُ إلّـا النورُ

تُشْبِهُ الخَنْدَريس ياقوتة ذابتْ ففيها للناظرِينَ سُرورُ

وهْيَ مِثل النار التي تتلظّى * ولها مِثلما لهذي زفيرُ

ثمّ أنّي بالخندريس لصَبٌّ * ومن النار والجحيم نَفورُ

إسْقِني خمرة لعلِّي بها أرجعُ شيئًا ممّا سبَتْني السَّعيرُ

وصِلِيني بالله أيّتها الخمرة إنّي اٌمرؤٌ إليكِ فقيرُ

أنتِ لو كنتِ في الجحيم بجَنبي * لمْ تَرُعْني نارٌ ولا زمهريرُ

ثمّ أني سَمِعْتُ سُقْراط يُلقي * خُطْبة في الجحيم وهي تفورُ

وإلى جنبهِ على النار أفلاطونُ يُصغي كأنَّهُ مسرورُ

وأرسطاليسُ الكبيرُ وقد أغرق منهُ المشاعرَ التفكيرُ

ثم كوبرنيكُ الذي كان قد أفهَمَنا أنّ الأرض جُرْمٌ يَدورُ

تَتْبَعُ الشمسَ أينما هِيَ سارتْ * وعليها مثل الفَراش تطيرُ

ثم دَرْوينُ وهْوَ مَن قال إنّا * نسْلُ قِردٍ قد طوَّرتهُ الدهورُ

ثم هيغلْ وبُخْنُرٌ وجِسِنديْ * ويليهِمْ سِبِنسَرُ المشهورُ

ثم توماسُ ثم فِخْتُ ومنهمْ * إسْبنوزا وهُلْبَكٌ وجيورُ

ونيوتونُ الحَبْرُ ثمّ رِنانٌ * ثم روسو ومِثلُهُ فولتيرُ

وزرادشْتُ ثم مِزدِكُ يأتي * وجُموعٌ أمامَهُمْ أبِقورُ

والحكيمُ الكِنديُّ ثمَّ اٌبنُ سينا * واٌبنُ رُشْدٍ وهْوَ الحفيُّ الجَسورُ

ثمّ هذا أبو دُلامَةَ مِنهُمْ * بَعْدَهُ الراونديُّ ثمَّ نَصِيرُ

وجماعاتٌ غيرهُمْ كلُّهمْ جَلْدٌ على نارها وكُلٌّ صَبُورُ

كان سُقراطُ أثْبَتَ القومِ جأشًا * فهْوَ ذو عزمٍ فائقٍ لا يخورُ

قال مِن بَعْد شَرْحِهِ مَنشأ النار وفي قولِهِ إليها يُشيرُ

سوف يقضي فينا التطوّرُ أن نقوى عليها وأن تهُون الأمورُ

إنَّ في ذا الوادي السَّحيق عيونًا * ثَرَّةً للبترول منها يفورُ

ولقد تنضبُ العيونُ فلا نارٌ ولا ساعرٌ ولا مسعورُ

ثمَّ لمّا أتمَّ خُطبتَهُ عَجّوا له هاتفين وهو جَديرُ

ورأيتُ الحَلّـاجَ يرفعُ منهُ الطّرف نحو السماء وهْوَ حَسيرُ

قائلًـا أنت الله وحدك قُيّومًا وأمّا الأكوان فهْيَ تَبورُ

أنت من حيثُ الذات لست كثيرًا * غير أنَّ التجَلِّيات كثيرُ

إنّكَ الواحدُ الذي أنا منهُ * في حياتي شرارةٌ تستطيرُ

وبهِ ليْ بعد الظّهور خَفاءٌ * ولهُ بيْ بعد الخفاء ظهورُ

لِمَ شِئتَ العذابَ لي ولماذا * لمْ تُجِرْني وأنتَ منهُ المُجيرُ؟

كان في الدنيا القتلُ منهُمْ نصيبي * ونصيبي اليومَ العذابُ العَسِيرُ

قلتُ أنّ المقدور لا بدَّ مِنهُ * أوَ حتى إن أخطأ المقدورُ

مكثوا حتى جاء منهمْ حكيمٌ * باختراع لم تنتظره الدهورُ

آلةٌ تطفِيءُ السعيرَ إذا شاء فلا تُحْرقُ الجسومَ السَّعيرُ

وأتى آخرٌ بخارقةٍ يهلك في مرَّة بها الجُمهورُ

واٌهتدى غيرُهُ إلى ما به الإنسان يَخفى فلا يراهُ البَصيرُ

ولقد قام في الأخير فتىً يخطبُ فيهِمْ والصوت منه جَهُورُ

فأحاطت به الملايينُ يصغون إليه وكلُّهُمْ موتورُ

قال يا قومَنا جهنمُ غصّتْ * بالألى يُظلمون منكم فثوروا

قال يا قومَنا أرى الأمْرَ مِن سُوءٍ إلى الأسوأ الأمضِّ يسيرُ

قال يا قومنا اٌحتملتُمْ من الحَيف ثِقالًـا يعيا بهِنَّ البَعيرُ

قال يا قوم إنّ هذا الذي أنتمْ تُقاسونهُ لشيءٌ كثيرُ

قال يا قومُ إننا قد ظُلِمْنا * شرَّ ظُلْمٍ فما لنا لا نثورُ؟

ومِن الناس مَن قضى الله أنْ يَكفُرَ والموتُ منهُ دانٍ يزورُ

فهَلِ الحقّ أن يُخَـلَّـدَ في النار على الكُفر ساعةً مجبورُ؟

قال يا قوم لا تخافوا فما فوق شُرورٍ تُكابدونَ شُرورُ

اجسروا أيها الرفاقُ فما نال بعيدَ الآمال إلا الجَسورُ

إنما فاز في الجهاد من الناس بآماله الكبارِ الكبيرُ

أنتمُ اليومَ في جَهَنَّمَ أسرى * وليكُنْ مِنكُمُ لكُمْ تحريرُ

قاوِموا القوّة التي غـشمتْ بالمِثْل والدَّهرُ للقويِّ ظَهيرُ

أنتمُ اليومَ الأكثرون وأمّا * عددُ الحارسين فهْوَ صَغيرُ

أيَّ شيءٍ نخاف منهم وإنَّا * لو تحدَّيناهُمْ لجَمٌّ غفيرُ؟

أيّها الناسُ دافِعوا عن حقوق * غصَبُوها والكاثرُ المنصورُ

أَلِـأهْلِ الجحيم بُؤسٌ وتَعْـسٌ * ولِمَنْ حَلَّ في الجِنانِ سُرورُ؟

أَلنا أسفلُ الجحيم مَقامٌ * ولهُمْ في أعلى الجنان قصورُ؟

كلُّ ما قد أصابكمْ من عذابٍ * فلهُ مِمَّن في السماء صُدورُ

إنَّ أهل القضاء ما أنصفوكُمْ * فكأنَّ القلوبَ مِنهُمْ صُخُورُ

إنهُمْ قد جاروا عليكمْ أشدَّ الجور منهمْ وما لهمْ أن يجوروا

قد خَدَمْنا العلومَ شتّى بدنيانا فهَلْ مِنْ حُسْن الجَزاء السَّعيرُ؟

كان في تلكُمُ اٌضطهادٌ وقتلٌ * ثمَّ في هذه العذابُ الدَّهيرُ

فعَلـا مِن أهل الجحيم ضَجيجٌ * رجَفَ الوادي منهُ والسّاعورُ

ولقد هاجوا في الجحيم وماجوا * كخِضَمٍّ مرَّتْ عليه الدَّبورُ

أطفأوا جمرةَ الجحيم فكانتْ * فتنة ما جرى بها التقديرُ

ثورةٌ في الجحيم أرجفتِ العَرشَ وكادتْ منها السماء تَمورُ

لبسُوا عدَّةَ الكفاح وساروا * في نظامٍ أتمَّهُ التدبيرُ

زحفوا ثائرين من كل صوبٍ * في صفوفٍ كأنهُنَّ سُطورُ

للأناشيد ينشدون بصوتٍ * في النفوس الحَرّى لها تأثيرُ

غَصَبوا حَقّكُمْ فيا قومُ ثوروا * إنَّ غصْبَ الحقوق ظُلمٌ كبيرُ

غَصَبوا حَقَّنا ولمْ يُنصِفونا * إنما نحن للحقوق نثورُ

لكُمُ الأكواخ المَشِيدةُ بالنار وللبُلْهِ في الجنان القُصورُ

غصبوا حقنا ولم ينصفونا * إنما نحن للحقوق نثورُ

إن خضعْتمْ فما لكمْ مِن نصيبٍ * في طوال الدهور إلّـا السَّعيرُ

غصبوا حقنا ولم ينصفونا * إنما نحن للحقوق نثور

ما حياةُ الإنسان إلا جهادٌ * إنما تُؤْثِرُ السكونَ القبورُ

غصبوا حقنا ولم ينصفونا * إنما نحن للحقوق نثور

إنما النارُ للذين لديهِمْ * قد تسامى الإحساسُ بئسَ المصيرُ

غصبوا حقنا ولم ينصفونا * إنما نحن للحقوق نثورُ

ولقد أسْرَعَتْ زبَانيةُ النار إليهِمْ وكلّهُمْ مذعورُ

يالها في الجحيم حربًا ضروسًا * ما لها في كل الحروب نظيرُ

ولقد عاضَدَ الذكورَ إناثٌ * ولقد عاضد الإناثَ الذكورُ

ولقد كانوا يفتكون ولا يُبْصَرُ منهمْ مهاجمٌ أو مُغيرُ

ولقد كانت البطونُ تَفرَّى * ولقد كانتِ الرؤوس تطيرُ

ثم جاءتهمُ الشياطين أنصارًا وما جَيشُ الماردين حقيرُ

كان إبليسُ قائدًا للشياطينِ وإبليسُ، حيثُ كان، قديرُ

ولقد جاء من ملائكة العرش لإرجاع الأمن جَمٌ غفيرُ

والذي قد قادَ الملائكَ منهُمْ * هُوَ عزرائيلُ الذي لا يخورُ

فهْيَ بين الملائك البيض صَفًّا * والشياطين السُّود صفًّا تثورُ

وتلاقى فوق الجحيم الفريقان وهذا نارٌ وهذا نورُ

فصِدامٌ كما تَصادَمُ أجبالٌ رواسٍ ومثلهُنَّ بحورُ

وصراخُ الجرحى إلى العرش يعلو * وجُروحُ المُجندلين تفورُ

يترامون بالصواعق صَفّين فيشتدّ القتلُ والتدميرُ

حاربوا بالرياح هُوجًا وبالإعصار في نارِهِ تذوبُ الصخورُ

حاربوا بالبروق تومضُ والرعدُ فيغلي في صوتهِ التامورُ

حاربوا بالبحار تلقى على الجيش بحَولٍ وماؤها مسعورُ

حاربوا بالجبال تُقذَفُ بالأيدي تباعًا كأنهنّ قشورُ

بالبراكين ثائراتٍ جرتْ من * حِمَمٍ فيها أبحُرٌ ونُهورُ

وقد اهتزّ عرشُ ربِّك مِنْ بَعْدِ سُكونٍ والدائراتُ تدورُ

ولقد كادتِ السماواتُ تهوي * ولقد كادت النجوم تغورُ

كانت الحرب في البداء سِجالًـا * ما لِصُبح النّصر المبين سُفورُ

ثمّ للناظرين بان جَلِيًّا * أنّ جيشَ الملائكِ المدحورُ

هزمُوهُمْ إلى معاقلِهمْ في الليل حتى بدا الصباحُ المنيرُ

ولأهل الجحيم تمَّ بإنجاد الشياطين في القتال الظهورُ

فاستراحوا من العذاب الذي كانوا يقاسونهُ وجاء السُّرورُ

لم يخوضوا غمارَها قبل أنْ تحْكمَ فيها الآراءُ والتدبيرُ

ثم طاروا على ظهور الشياطين خِفافًا كما تطيرُ النسورُ

يطلبون الجنان حتى إذا ما * بلغوها جرى نضالٌ قصيرُ

ثم فازوا بها وقاموا بما يوجبه النصرُ والنهى والضميرُ

طردوا مَن بها من البُلْهِ واٌحتلّوا القصورَ العُليا ونِعْمَ القصورُ

غَيْرَ مَن كانوا مُصْلِحِين فهذا القِسمُ مِنهمْ بالإحترام جديرُ

فرَّ رضوانُ للنجاة ومِن أتباع رضوان مُسرعًا جُمهورُ

وأقاموا لفتحِهِمْ حفلةً أعقبها منهمُ الهُتافُ الكثيرُ

إنهُ أكبرُ انقلاب بهِ جادتْ على كرِّها الطويل الدهورُ

وتنبَّهْتُ مِن مناميَ صُبْحًا * فإذا الشمسُ في السماء تُنيرُ

وإذا الأمرُ ليس في الحقّ إلّـا * حُلُمًا قد أثارهُ الجرجيرُ
¤ ¤ ¤

About جميل صدقي الزهاوي

جميل صدقي الزهاوي : شاعر وفيلسوف عراقي كردي الأصل، وقد عرف بالزهاوي .منسوبا إلى بلدة زهاو ولد جميل الزهاوي في بغداد عام 1863م، وعين مدرسا في مدرسة السليمانية ببغداد عام 1885م، وهو شاب ثم عين عضوا في مجلس المعارف عام 1887م، ثم مديرا لمطبعة الولاية ومحررا لجريدة الزوراء عام 1890م، وبعدها عين عضوا في محكمة استئناف بغداد عام 1892م، وسافر إلى إستانبول عام 1896م، فأعجب برجالها ومفكريها، عين أستاذا للفلسفة الإسلامية في دار الفنون بإستانبول ثم عاد لبغداد، وعين أستاذا في مدرسة الحقوق، وعند تأسيس الحكومة العراقية عين عضوا في مجلس الأعيان. توفي الزهاوي عام 1936م.
This entry was posted in الأدب والفن. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.