المفرش

أقبع مكانى ، أتطلع من حين لآخر بقلق للساعة صينية الصنع المقلِدة للساعات ذات البندول قديمة الطراز، والتى يبدو زيفها fwواضحا ، أتامل اللوحات المقصَّبة ذات الذوق الردئ المكدسة بالزخارف والمعلــَّقة على الجدران ، أتململ فى مقعدى .. أنظر نحوهم .. يجلسون بالقرب مني ثلاثة أربعة أو خمسة ، لا أستطيع التمييز فضوء الغرفة خافت وكلما حاولت أن أزيد من قوة الاضاءة ، كانت قبل ان أصل الى مقعدي تعود لسيرتها الأولى .
أصواتهم تبدأ هادئة ثم يتحولون الى الصراخ، كان حديثهم دائما يدور حول السيدات أنا وأخريات يجلسن متفرقات فى الغرفة ، كنت أنصت للحديث بإصرار ألا أشارك وصدرى يفور غضبا، ومع ذلك كنت دائما ما اتصور ان بقدرتي أن أحسم الأمور فى النهاية.. تمتمت :
– لن يصح الا الصحيح.
كانوا ينفضُّون وينهون الجلسة بعد أن تصل المشادات الكلامية الى حد التطاول بالأيدى ، لكنهم كانوا يأمرونا ألا نتحرك ونرابط فى أماكننا إلى أن يعودوا ثانية ليبدأ الجدل من جديد وكأن كل ما فات من نقاش لم يحدث. أثناء الانتظار كنت ألمح فى جوانب الغرفة المعتمة أشباح رجال ونساء يقفون حاملين شموعا يشعلونها بإصرار كلما إنطفأت بفعل الرياح الصادرة من دوران المراوح المثبتة فى السقف.
لم أستطع أن اتبين ملامحهم.. يظهرون لحظة أن تضاء الشموع ثم يختفون ثانية.
من ضمن المجتمعين شخصا ينزف ، وكان يبدو كما لو كان لم يلحظه إلا أنا ، وكنت أنبههم من وقت لآخر أنه قد يموت ، لكنهم لم ينصتوا ولم يهتموا .. كانت تتساقط أجزاء منه على الأرض وبقدر الرؤية المتاحة لي فى هذا الضوء الضعيف ، تبينت أنه كان ينحنى ليلملمها ويعيدها الى مكانها .. كان فيما يفعله شئ يزعجنى لكنه لم يتوقف عن لملمة أجزاءه ولم يتأوه أو يبدو عليه الشعور بالألم عند سقوطها.
أحدهم كان يرى أنى لابد ألا أجلس معهم ، وأن ظهورى بملابسى تلك .. البنطلون والقميص والجاكيت استفزاز لمشاعره يُضعِف تركيزه ، فاقترح على المشاركين فى الجلسة أن يستخدم مفرش الطاولة التى يجلسون حولها ليغطينى ، كان الهجوم علي مفاجأة جعلتني أنكمش على ذاتي بتلقائية ثم أرفض وبسخرية حتى سماع الفكرة،… كان هناك شخص صامت يراقب الكلام ويدق أحيانا بيده على المنضدة ، تطل من عينيه نظرة إستهزاء ، لم ينطق بكلمة طوال الوقت لكن كان الجمع يشعر بوجوده ، ينظرون له كي يدلي برأيه فيكتفي بأن يومئ برأسه دون رفض أو موافقة .
ظللت انظر حولى متطلعة فى وجوه النساء الأخريات أشهـِدَهُنَّ على ما يحدث لي ، البعض منهن كن يؤيدن فكرة تغطيتى بمفرش الطاولة ويبتسمن ابتسامة بلهاء ، وأخرى كانت تصف لزميلتها طريقة تجهيز صينية البطاطس ، وهناك من كانت تلوك العلكة وتلف شعرها ببكرات منشغلة عن المشهد بالكامل بقراءة مجلة مصورة ، كانت توجد أيضا من كانت من تبدى إستياءها بامتعاض وترسل لي مع نظراتها من بعيد إشارات أن أرفض وأصر على الرفض ، ولكنها لم تنبس بكلمة واحدة ، رفعت يدها مشيرة لي بعلامة النصر، ولكنها أنزلتها على الفور مع نظرات الصامت .
رفضت بإصرار ألا يغطيني الرجل بالمفرش ، وظللت أتحرك بسرعة فى جوانب الغرفة كي أتجنب ملاحقته والمفرش بيده، وكنت أثناء عدوي ألمح الأشباح حاملي الشموع يقفون كتماثيل، وأخيرا جلس يائسا بعد أن فشل فى اللحاق بي وتيقن من عدم طاعتي أو أستسلامي ، بالطبع لم يكن إصراري هذا محل رضاه فقال بلهجة توعد عدائية :
– لن أتركك تلحقين به.
نظرت له وانا ألهث من أثر العدوّ فى الغرفة وقلت :
– أنا لا أريد أن اُغَطــَّى بهذا المفرش .
ثم نظرت حولي فى حيرة وقلت محاولة أن أجد من يساندني :
– أليس هذا من حقي يا ناس
فزاد من تنمره ونطق كلماته كما لو كان يطلق رصاصات:
– إما المفرش أو لن تضعي قدمك فى القطار.
نظرت للرجل الذى لازالت أجزاؤه تتساقط بعد أن أصبحت شديدة اللزوجة وهو يحاول إعادتها لموضعها، فيصدر عن إلتحامها صوت أشبه بالصوت الذى يصدر عند إلتصاق اللحم بالحديد الساخن ورائحة كرائحة الشواء، لم أفهم من أين تنبعث الحرارة، هل هي صادرة من الأجزاء المتساقطة أم ربما من الجسد.. كان كل ما يفعله يشتتني ولا أعرف لماذا كنت أتوقع من هذا الممزق أن يساندني !!
إقترب موعد قيام القطار فتوترت أعصابي لأنني كنت اريد اللحاق به ، فبدأت ألملم أغراضي لأبدو فى حالة تأهب للرحيل، لقد كان هذا واضحا للجميع أنني لن أتراجع، وضعت نظارة الشمس السوداء على رأسي مؤقتا حتى لا تزيد عتامة المكان الى حين أن أخرج الى الشارع، وضعت أقلامي وأوراقي فى حقيبة يدي وعدلت من وضعها على كتفي ، ظل ينظر لي نظرات أخافتني إلى حد ما لكني حاولت إخفاء إرتباكي حتى لا يشعر انه إنتصر أو أنني تخاذلت . شعرت بجفاف شديد فى حلقي بسبب الجو العدائي الذى يملأ الغرفة ، نظرت خلفي.. لقد كانوا لا يتوقفون عن الصراخ والجدل المعاد مرات ومرات ، تناولت كوب الماء الوحيد الموجود على منضدة الجلسة .. كان هذا الذى ينظر باستهزاء منذ بداية الجلسة تملأ عينيه ابتسامة خبيثة تعلو وجهه الكئيب تقضي على ما تبقى من هواء للتنفس فى الغرفة ، بدأت أشرب متعمدة ألا يقع نظرى عليه أو على رجل المفرش الذى كنت اتجاهل تهديده .. لمحت السيدة ذات بكرات الشعر تعدل من وضع بكراتها تفكـَّها وتعيد لفـَّها وكأنها تعيش فى عالم آخر ظننت أنها وهم وأني فقط أتخيلها لكن للأسف وجودها كان حقيقيا ، شعرت باستفزاز فقذفتها بالكوب الزجاجي الفارغ ، حين صرخت ساد صمت عميق وخيم تماما على المكان وسط ذهول الحضور سقطت هي على الأرض وراحت تغط فى النوم.
إستدرت نحو باب الغرفة وأشحت بيدي فى غضب فلمحت بطرف عيني السيدة التى كانت تشير لي ألا أتنازل وقد أخرجت منديلا لونه أبيض من حقيبتها ووقفت تلوح لي موَّدِعَة، لم أردّ على تلويحها وحين وصلت الى باب الغرفة ومددت يدي إلى المقبض لكي أفتحه سمعته يصرخ بأعلى صوت وبلهجة آمرة ومحذرة:
– إتغطي بالمفرش
فلم ألتفت رغم أني ارتجفت رعبا حين صرخ ولكني قلت بتحدي
– لن أفعل .. بعد إذنك انا رايحة أركب القطر.
إستدار بسرعة ورفع سماعة الهاتف يريد ان يلحق بي قبل أن أغادر وقال بصوت أستطيع سماعه وبأمر :
– ألو .
– إفعل.
– أنا هنا اللى بقول.
– لأ ما تركبش
خرجت من الغرفة أعدو نحو محطة القطار.. لازال الوقت مبكرا ، كنت واثقة من أن هذا مجرد كابوس وأكيد بسبب إصراري سوف أصل فى الموعد وسوف ألحق بالقطار رغم محاولات تعطيلي وإضاعة الوقت لكن كان داخلي شعور قوي أن رفضي الالتحاف بالمفرش لن يكون سببا كافيا لمنعي من ركوب القطار.
وجدت القطار يقف حين وصلت للمحطة ، شعرت بالاطمئنان بعد أن تأكدت من أن التذكرة التى اشتريتها من قبل عدة أيام موجودة فى حقيبتي، إقتربت من القطار لأضع قدمي على أول السلم فإذا بحرارة شديدة تنبعث منه تلفح وجهي وتلصق قدمي بأول درجات السلم ، وصوت إلتحام اللحم بالحديد الساخن يسمع بوضوح فأشم رائحة الشواء تنبعث من قدمي التى لم أعد أستطيع تحريكها.
أطل ركاب القطار من النوافذ يمسك كل منهم بمنديل أبيض يلوحون به لي وانا أحاول أن أستغيث بهم وأصرخ أو أشرح حالى حتى يأتي أحدهم فينقذني، لم يخرج صوتي من حلقي وبدأ القطار فى الحركة وهم ما زالوا يلوحون وابتسامة باردة تطل من على وجوههم ، كانت سيدة البكرات من بينهم وكان الرجل صاحب نظرة الاستهزاء لازال محتفظا بها تلتصق بملامح وجهه الكئيب يراقب من بعيد.
القطار يجرني ، صراخي محشور فى حلقي لا يسمعه احد ، القطار يسرع ، بدأوا يختفون أحدهم إثر الآخر، حررت قدمي بصعوبة ..قرب نهاية الافق كانت أجزاء القطار قد بدأت فى التفكك ، تسقط على الارض وأنا في ذهول من تطاير الركاب .. وقفت اتحسس رأسي كما لو كنت أريد أن أتأكد من أنها لازالت موجودة فى مكانها ، نظرت لقدمي التى التصقت بدرجة سلم القطار فوجدتها وقد أصابها بعض التشوه لكني لم أهتم سوى بأني لازلت أحتفظ برأسي.
فى طريقى للعودة ، كانوا يقفون على رصيف المحطة، أشباح حاملة للشموع ملوحين بها، وكنت أفكر في ألا أعود للتواجد فى غرف الجلسات الضيقة .. نهائيا.

فاتن واصل – مفكر حر؟

About فاتن واصل

كاتبة ليبرالية مصرية
This entry was posted in الأدب والفن. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.