جامع الأعشاب: إلى روح االعفيف الأخضر

أنور مغيث

بينما كان الفيلسوف اليوناني زينون ينتزع من الأرض أعشاباً ويتجه إلى النبع ليغسلها ويتناول غذائه، مر عليه أفلاطون وقال له : يا زينون، لو كنت لطيفاً مع الملك ما كنت مضطرا لتنتزع من الأرض أعشابا لتأكلها. فقال له زينون : وانت يا أفلاطون، لو كنت جمعت طعامك من أعشاب الأرض ما كنت مضطرا لأن تكون لطيفا مع الملك.

هذا هو الدرس الباقي من الحياة الصاخبة للمفكر التونسي الأستاذ العفيف الأخضر الذي رحل عنا منذ أيام. لقد اختار الحياة البسيطة في المسكن والملبس والمأكل غير حافل بالمظهر أو النجاح الاجتماعي. وكما كان أبو العلاء المعري يعيش على الخبز والدبس كان العفيف يعيش على الخبز وزيت الزيتون. المهم أنه كان سعيدا باختياره هذا والذي كان يعتبره علامة على أنه أفلت من الاغتراب المعمم في الحضارة الرأسمالية والذي يتجلى في نهم الاستهلاك والهوس بالملكية والتباهي بالعلامات الخارجية للثروة. ولهذا لم ترد على لسانه أي شكوى من تلك التي نسمعها من المثقفين مثل أنه لم يحصل على التقدير الكافي، كما لا يتحدث عن بطولاته في رفض الثروة من أجل التمسك بقول الحق. وفي نفس الوقت لم تكن به أي نقمة على المثقفين من أصدقائه من أصحاب الثروة والسلطان.

كان موسوعياً، فقد كان تعلمه في جامع الزيتونة ثم دراسته للحقوق مصدرا لإلمام واسع بالتراث والشريعة ولتمكن من اللغة العربية الفصحي نادر المثال. وكان تبنيه المبكر للفلسفة الماركسية منطلقا للتبحر في الفلسفة بوجه عام وكذلك في الاقتصاد والتاريخ. ثم اهتم بالتحليل النفسي واعتبره منهجا مضيئا في فهم حياة القادة وردود أفعال الجماهير وآلية عمل التراث. وانشغل بقضية البيئة وجمع كل ما يُكتب بشأنها. وحين تعرفت عليه في باريس في بداية الثمانينيات كان منكباً على إعداد كتاب عن عصر الأزمة الدائمة. فالأطروحة الشائعة لماركس هي أن الرأسمالية تدخل باستمرار في أزمات دورية تنتهي ثم تعاود الحدوث. ولكن يرى العفيف أنه منذ النصف الثاني من القرن العشرين لم تعد الأزمات دورية بل بنيوية دائمة. كتاب لم يكتمل… وهذا ملمح آخر من شخصيته فهو يبذل كل ما لديه من وقت ومال لانجاز مشروعه بالجدية اللازمة، ثم تطرأ أحداث تدفعه للاهتمام بها، ليتوارى مشروع الكتاب مؤقتاً وإن لم ينته الانشغال به.

كان في كتاباته مثيراً للزوابع، فهو يحب أن يكون في صف من ينقدون لا في صف من يمتلكون الحقيقة. لقد بدأ حياته السياسية بالانخراط في صفوف المقاومة الجزائرية، وصار مستشارا لبن بيللا وبعد انقلاب هواري بومدين انتقل إلى صفوف المقاومة الفلسطينية. وقد راعه هيمنة الستالينية في الفكر والتنظيم على الحركات السياسية الماركسية في الشرق العربى فظهرت كتاباته النقدية الجريئة التي تتميز بالحدة والسخرية والمبالغة في الاتهام. كما ظهرت أيضا أبحاثه المبتكرة والأصيلة في نقد الترجمة والبحث عن الإيديولوجيا الضمنية التي تكمن خلف اختيار المترجم للمصطلحات وتحويره لمعنى العبارات.

الفكرة التي تشيع في وسط القراء العرب عن العفيف الأخضر هي تقلباته الفكرية. وهي فكرة صحيحة، حتى أن الأستاذ شاكر النابلسي حينما كتب كتاباً جميلاً عن العفيف الأخضر أسماه “محامي الشيطان”، إشارة إلى دفاعه عن الفكرة ونقيضها بنفس الحماس. ولقد عايشت بالفعل تنقله من فكرة ضرورة مقاومة المثقف للسلطة إلى ضرورة التعاون معها. هكذا فعل فولتير، لتحقيق مشروعه التنويري. وهذا الاختيار هو الذي يفرض في نظره، على المثقف العربي ضرورة الانتقال من النضال لتحقيق الاشتراكية في البلاد العربية إلى النضال من أجل الدخول في الحداثة عبر الليبرالية؛ ومن النضال ضد الكيان الاسرائيلي إلى قبول السلام والمناداة بضرورة اتصال المثقفين العرب بالحركات اليسارية الاسرائيلية لانتزاع حقوق الشعب الفلسطيني؛ وأخيرا الانتقال من الهجوم على الدين بوصفه اغترابا وأداة لتحقيق هيمنة الطبقات الغنية، إلى ضرورة إعادة تفسير التراث الاسلامي بوصفه الممر الضروري لوصول العرب إلى الحداثة والعلمانية.

وفي تقديري أن إرادة الفرد لا دخل لها في اختيار ما يؤمن به من الأفكار، بل إن الأفكار هي التي تختار الانسان الذي ينطق بها (وهذا هو الأساس الانسانى والقانوني لمبدأ حرية العقيدة)، ويبقى دور المرء بعد ذلك في يصيغ لنفسه مساراً متماسكاً ومبرراً لهذا التحول. لقد انتقل العفيف من الاهتمام بتحرر الانسانية كلها إلى الاهتمام بضرورة تقدم العالم العربي، فتغير المنظور وتغيرت المهام. لقد عاش العفيف في بداية الستينيات في فرنسا، ولم يكن يشغل بال المجتمع الفرنسي أي مشكلة بشأن المسلمين القلائل الذين يقيمون فيه، ولكن في سنوات حياة العفيف الأخيرة احتدت مشكلة اندماج المسلمين في المجتمعات الأوربية وتفاقمت العنصرية، فتحولت دفة الاهتمام. وكان يرى أن التعليم هو حجر الأساس في كل حداثة مقبلة تريد أن تصبح واقعاً، فتوجه بخطابه إلى أولي الأمر من الرؤساء والوزراء باعتبار أن لديهم سلطة اتخاذ القرارات. وهو في وسط هذه التحولات لم يسقط يوماً في العدمية؛ لم يتشكك يوماً في جدوى الكتابة. وكان يشعر بمسؤلية الكلمة وبحق العرب في الأمل والنضال من أجل تحقيقه.

وحينما قامت ثورة 25 يناير لم يكن متفائلاً بسبب التخلف الثقافي والدروشة الدينية السائدة. وكان يقول لي، ماذا تنتظر من ثورة في مجتمع مازال 75% فيه موافقون على رجم الزانية! ورغم ذلك كان يراها لحظة تحول تاريخية في حياة الشعوب العربية لأنها لحظة “قتل الأب”. وهوتعبير من التحليل النفسي يرمز إلى بلوغ سن الرشد واستقلال الارادة على مستوى الأفراد. وعلى مستوى الشعوب هو التخلي عن انتظار الزعيم الملهم أو تدخل العناية الإلهية.

في قلب كل هذه التحولات كان هناك لدي العفيف هم دائم لا يبارحه، هو ضرورة اصلاح اللغة العربية وتعديل قواعدها لتصبح قادرة على التعامل مع لغة العلم الحديث، وكثيرا ما طالبني بألا استخدم في مقالاتي المثنى أو نون النسوة، حيث اجمعت الشعوب العربية المعاصرة على اسقاطها في لغة الحديث دون أن يشكل ذلك أي عائق في الفهم أو التواصل.

كان أسلوب العفيف في الكتابة جذاباً وواضحاً ورصيناً، أقرب إلى عصر الجاحظ، مليء بالسجع والمجاز والأمثال، تقطعه أحيانا أبيات من الشعر المأثور. فمثلا حين يتحدث عن ظاهرة التضخم المالي في الرأسمالية المعاصرة فإنه يستخدم قول المتنبي في وصف غوطة دمشق “وألقى الشرق منها في ثيابي .. دنانيراً تفر من البنان”.

أما موقفه من الموت فكان فلسفياً بامتياز. نظرت الطبيبة الفرنسية إلى الاشاعات والتحليلات وقالت: الوضع مقلق، فقال لها ربما يكون مقلقا بالنسبة لك أما بالنسبة لي فهو خبر عادي، معناه أن علىّ أن أرحل لأترك مكانا في الحياة للقادمين إليها. وكان شديد الاعجاب بأعلام في التاريخ قضوا على حياتهم بأيديهم حينما شعروا أن سوف يدخلون في مرحلة من عدم اللياقة الذهنية والبدنية وسيتحولوا إلى عالة على الآخرين.

كان العفيف الأخضر غير مكترث بمجابهة الموت لأنه كان راضياً عما فعله في الحياة.

كتابات العفيف سواء في مراحلها الأولى والخاصة بالسجال مع الماركسية العربية، أو في مراحلها الأخيرة والخاصة بالسجال مع فكر الاسلام السياسي هي أشبه بأحجار ملقاة في قلب المياه الراكدة. تتسم بالجرأة في الطرح والقدرة على الاستفزاز وإثارة التساؤل. وأهم ما يميزها هي تلك القدرة الخاصة، التي قلما نجدها عند كاتب غيره، في الدفاع عن رأيه عن طرق حشد جمع من الحجج تنتمي لمجالات فكرية مختلفة من الاقتصاد إلى الفلسفة إلى علم النفس والعلوم السياسية ومن أراء قدامى الفقهاء المسلمين إلى نظريات أحدث المفكرين الغربيين، ومن لغة الأرقام والاحصائيات إلى لغة السخرية والتأثير على العواطف. كثير من معاركه الفكرية ما تزال حية. وكان العفيف سعيدا بأن القارئ الحالي يمكنه بنقرة أصبع أن يقرأ عن طريق الانترنت أغلب ما كتب. لقد صار الطريق سهلا للتعرف على أفكاره .

المصدر ايلاف

About العفيف الأخضر

العفيف الأخضر (1934-213 ) ولد في عائلة فلاحين فقراء في شمال شرق تونس سنة 1934. والتحق بجامعة "الزيتونة" الدينية ("أزهر تونس")، ثم بكلية الحقوق. ومارس مهنة المحاماة بين 1957 و1961، ثم تخلّى عن هذه المهنة وسافر إلى باريس في 1961، قبل أن يلتحق، مع يساريين آخرين، بنظام الرئيس أحمد بن بلا غداة إستقلال الجزائر. وانتقل إلى الشرق الأوسط في العام 1965، وتنقّل بين عمّان وبيروت حيث طبع أهم كتبه التي كان محورها "نقد الفكر الإسلامي التقليدي". غادر العفيف الأخضر بيروت محزوناً بعد اندلاع الحرب الأهلية، وبعد أن صدم أصدقاءه اليساريين بموقفه الرافض لهذه الحرب، والرافض لكل مبرّراتها "التقدمية". فقد هاله أن اليسار اللبناني لم يدرك أنه كان يسهم، بدون وعي، في تحطيم الحصن الوحيد للحرية في العالم العربي "الغبي والمستبدّ". ويعيش "العفيف" في باريس منذ 1979، ويكتب لصحيفة عربية، ويحاضر أحياناً في القاهرة أو يشارك في نقاشات تلفزيونية في محطات فضائية عربية. لماذا ننشر مقالات "العفيف الأخضر"؟ لأن التاريخ يتقدّم بمنطقه الخاص، والفكر "الخارجي" يمكن أن يصبح فكر الساعة "من حيث لا تعلمون". وليس سرّاً أن العفيف الأخضر كان أول دعاة "تجفيف منابع" الفكر الأصولي الإرهابي بعد أحداث 11 سبتمبر-أيلول 2001. كتب العفيف الأخضر: التنظيم الحديث، دار الطليعة، 1972. الموقف من الدين، دار الطليعة، 1973 (الذي تدخّل رئيس تنظيم ديني في لبنان لمنع طبعته الرابعة).
This entry was posted in فكر حر. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.