هل يمكن تجاوز الطائفية في المدى المنظور؟

الشرق الاوسط

اسمحوا لي أن أتحدث لكم الآن عن شيء يقلق عالمنا العربي والإسلامي كله حاليا هو: الطائفية. ومنذ البداية أقول لكم لا تستمعوا إلى تصريحات بعض المثقفين والقادة السياسيين عن الموضوع فإنها في معظمها ديماغوجية: أي لغة سهلة وشعارات فارغة ومزايدات ليس إلا. الطائفية عقيدة أكثر خطورة وجدية مما نظن. إنها مغروسة في أعماق الوعي الفردي والجماعي والتخلص منها يتطلب عدة أجيال. لتوضيح ذلك سوف أروي لكم القصة التالية. بعد وصولي إلى فرنسا بسنوات قليلة كنت أسكن مرة في المدينة الجامعية – البيت الألماني على ما أذكر. وهناك تعرفت بالصدفة على فتاة جذابة فرحت أنسج حولها الأوهام إن لم أقل الأحلام. ولكن من دون جدوى. فكلما التقينا لا تتحدث لي إلا عن نفس الموضوع: الاضطهاد التاريخي للبروتستانتيين في فرنسا على يد الكاثوليكيين الطغاة. أنا أتحدث لها عن العشق والغرام وألف ليلة وليلة وهي تتحدث لي عن الصراعات اللاهوتية الكاثوليكية – البروتستانتية. أنا هارب من سوريا والمنطقة كلها بسبب الصراع السني – الشيعي فإذا بي أسقط في صراع من نفس النوع ولكن في دين آخر! قلت بيني وبين نفسي: ولكن هذا الموضوع انتهى في فرنسا منذ أكثر من مائة سنة، فلماذا تظل مهووسة بشيء أصبح في ذمة التاريخ؟ لماذا لا تحسد نفسها على أنها تعيش في بلد علماني حديث يؤمن لها حق المواطنة الكاملة تماما كأبناء الأغلبية الكاثوليكية؟ من الأشياء التي أتأسف عليها في حياتي أني لم أستطع الاستماع إليها كما يجب لأني كنت مهووسا بها آنذاك كامرأة لا كإنسانة ولا كمثقفة. وهكذا فوّتُ على نفسي فرصة ذهبية لتعميق النقاش معها حول موضوع فكري – سياسي من الدرجة الأولى. ولكني استفدت من ذلك لاحقا عندما انخرطت في علم الأديان المقارنة. واكتشفت أنه لا يمكنك أن تفهم المشكلة الطائفية بشكل صحيح وعميق إذا ما بقيت سجين دين واحد فقط. ينبغي أن تطلع عليها من خلال عدة أديان أو على الأقل دينين كبيرين كالإسلام والمسيحية لكي تفهم الأمور على حقيقتها ومن أوسع أبوابها. عندئذ عرفت كيف حلت الدول المتقدمة المشكلة الطائفية بشكل جذري. «مبروك عليهم»!

القصة الثانية التي سأتحدث لكم عنها حصلت قبل سنوات قلائل فقط: أي بعد أن أصبحت متعمقا في تاريخ فرنسا وقادرا على النقاش مع أي امرأة حول أي موضوع من دون الهوس بها كامرأة! في إحدى المرات كنت في المكتبة أفتش عن الكتب التي تعجبني أو تهمني. وفجأة وقع بصري على كتاب تتصدر غلافه صورة امرأة جميلة مشرقة فأخذته فورا. بالمناسبة اكتشفت مؤخرا أني قد أعشق «حتى على الصورة»! ولله في خلقه شؤون.. مثلا في إحدى المرات كنت أقلب صفحات كتاب قديم وفجأة وقع بصري على الوجه الرائع للحسناء الفاتنة «لوّ أندريا سالومي» فوقعت في حبها على الفور، وأكاد أقول بالضربة القاضية! وعندما استفقت من غيبوبتي قلت: والله نيتشه معذور لأنها جننته، و«بول ري» لأنه انتحر من أجلها، وريلكه لأنها دمرته، الخ. فإذا كانت الصورة قد دوختني فما بالك بالحقيقة؟ إن العيون التي في طرفها حورٌ… لكن لنعد إلى صلب الموضوع بعد هذا الفاصل الموسيقي القصير. عندما فتحت الكتاب المذكور وجدت أنه يتحدث عن الصراع الكاثوليكي – البروتستانتي بشكل حي ومباشر. فالمؤلفة التي وضعت صورتها على الغلاف ما هي إلا كاتبة بروتستانتية تدعى فريدريك هيبرار. وهي ابنة أحد كبار المفكرين البروتستانتيين في فرنسا وعضو الأكاديمية الفرنسية أندريه شامسون. وعم يتحدث الكتاب؟ عن قصة زواجها بشاب كاثوليكي تعرفت عليه بالصدفة في الجامعة. ومعلوم أن الحب لا يعترف بالحواجز والحدود. إنه العدو اللدود للطائفية والطائفيين. ولكنهم أحيانا قد يتآمرون عليه ويقتلونه!

وعندما أرادت تقديمه إلى عائلتها كان من الأسهل عليها أن تقول إنه يهودي أو حتى عربي مسلم وليس كاثوليكيا! وقد شعر والدها وكأن الطامة الكبرى قد نزلت على رأسه عندما عرف أنه ينتمي إلى المذهب المضاد: أي مذهب الأغلبية الكاثوليكية. ماذا يا ابنتي: أتأتيننا بواحد كاثوليكي إلى البيت؟ العدو التاريخي! هل تعرفين كم اضطهدونا وعذبونا واحتقرونا على مدار التاريخ؟ ومع ذلك فقد أنجبا الأولاد وعاشا أجمل حياة ولا يزالان. فهل الحب أقوى من الطائفية؟ من دون شك. إنه أقوى من الموت!

إليكم أيضا قصة أخرى من فرنسا قد تساعدكم على تشكيل فكرة عن علم الطائفية المقارن. يقال إن والد الجنرال ديغول، الأستاذ هنري ديغول، دعا في إحدى المرات زميله في التعليم إلى البيت للعشاء. وقد شاءت الصدفة أن يكون بروتستانتيا. وأما عائلة ديغول فهي كاثوليكية عريقة أي تنتمي إلى مذهب أغلبية الشعب الفرنسي. فحصلت فضيحة في البيت. مدام ديغول الكاثوليكية جدا لا يمكن أن تستقبل على المائدة شخصا كافرا زنديقا! إنه ينجسها. فما العمل؟ ولا أعرف كيف حلت المشكلة في نهاية المطاف. على أي حال نخطئ إذ نظن أن داء المذهبية مقتصر على الإسلام، والسنة والشيعة، إلخ.. إنه موجود في كل الأديان.

أخيرا إليكم هذه القصة عن زعيم العلمانية الفرنسية من دون منازع: إنه القائد السياسي الكبير جول فيري. فقد وقع بالصدفة في حب امرأة بروتستانتية فتزوجها من دون أي تردد لأنه عدو حقيقي للطائفية. وهو الذي قبرها أصلا عندما أسس لأول مرة المدرسة الابتدائية العلمانية المجانية في كل أنحاء فرنسا. وهي المدرسة التي تعامل الجميع على قدم المساواة ولا تقيم أي تمييز بين الأطفال على أساس طائفي. وخاض بسبب ذلك حربا ضروسا ضد رجال الدين الكاثوليكيين، أي ضد رؤساء طائفته بالذات. ويقال إنه شعر بالاختناق من كثرة ما عرقلوا مشاريعه وناوشهم وناوشوه. ولكن المشكلة هي أنه عندما قدم زوجته الشابة إلى العائلة لكي تتعرف عليها رفضت أخته الكاثوليكية المتشددة مصافحتها! لقد رفضت أن تضع يدها في يد زنديقة بروتستانتية لكيلا تنجسها! نقول ذلك على الرغم من أن زوجته كانت من عائلة أرستقراطية مشهورة ولكنها تبقى بروتستانتية أقلوية، وهذه نقيصة لا تغتفر. فهل تريدون دليلا آخر على مدى تجذر العصبيات الطائفية في العقول؟

وبالتالي فإذا كانت دولة مثل فرنسا لا تزال تحصل فيها مثل هذه الحوادث المتفرقة فما بالكم بنا نحن؟ فرنسا عاشت عدة ثورات علمية وفلسفية ولاهوتية متلاحقة على مدار القرون الماضية. وهي ثورات نظفتها من العقلية الطائفية القديمة تنظيفا وطهرتها تطهيرا. كما وشهدت أكبر صراع جدلي خلاق بين العقل الديني والعقل الفلسفي في حين أننا لم نشهد بدايات بداياته حتى الآن. آسف أن أقول لكم بأنه لا يوجد حتى هذه اللحظة فكر جاد ومسؤول عن الطائفية في العالم العربي. ماذا يوجد إذن؟ يوجد كلام الطوائف فقط: أي ذلك الكلام الموروث أبا عن جد منذ مئات السنين والذي لا هدف له إلا تبجيل الذات وتحقير الآخر أو حتى تكفيره. ولهذا السبب أقول إن المشكلة طويلة جدا وإنه ما دامت لم تحل فكريا فلا يمكن أن تحل سياسيا في المدى المنظور.

This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.